[frame="2 80"][align=center]
سقط ومات
وقف أمام القاضي ، فأنكر أنه مدين بمبلغ خمسمائة وألف من الدنانير لورثة الشيخ إبراهيم محمد ، فطلب منه القاضي أن يقسم بأن الشيخ إبراهيم لم يدفع له في بوم من الأيام هذا المبلغ ، وأنه ليس مديناً له ، فأقسم ثم غادر المحكمة بعد أن أفرج عنه القاضي ونطق بالحكم عليه بالبراءة .
ولم بكد يتخطى عتبة المحكمة سقط على الأرض ميتاً ! ذلك ماحدث في عام 1954م
في مدينة ما من مدن العراق ، ولكن القصة لا تبدأ هكذا ، فلنذكر القصة كما حدثت .
كان الشيخ إبراهيم محمد من التجار الكبار ، وكان لا يرد طلب طالب ، ولا يخيب رجاء قاصد .
وفي يوم من الأيام قصده السيد جابر في مكتبه الكائن في (خان الشط) المطل على نهر دجلة وعرض عليه أمره
وقال السيد جابر للشيخ إبراهيم : إنني جارك ، وقد كان والدي من أصدقائك المقربين ، وحين حضرته الوفاة أوصاني أ، التجئ إليك إذا حزمني الأمر أو ضايقتني أعباء الحياة ، إن الزرع في هذه السنة كما تعلم لم تعط ثمن بذارها ، فقد اضمحلت الأرض وانقطع المطر وساء الحال ، فلا أعرف كيف أدبر أمري ، وكنت قد استقرضت مالا من المصرف ، فلابد لي من دفع ديوني له وإلا افتضح أمري وشمت بي الأعداء
واليوم أتيتك لتقرضني خمسمائة وألفاً من الدنانير ، لأدفع الدين الذي في عنقي لمصرف الرافدين ، وأشتري البذار وأدبر أمري ، وموعدي معك لوفاء دينك علي في موسم حصاد الحنطة والشعير في العام المقبل ، وقام الشيخ إبراهيم إلى خزانة نقوده في مكتبه ، وأخرج منها المبلغ ودفعة إلى السيد جابر وسجل المبلغ في دفتر الحسابات , وأبدى المدين شكره وأظهر امتنانه ، وأصر على كتابة سفتجه ولكن الشيخ إبراهيم قال به : لاشكر على واجب وبيني وبينك الله ، فهو نعم الوكيل ونعم الشهيد ، وبعد سنة تقريباً من هذا الحادث ، مات الشيخ إبراهيم بالسكتة القلبية .
وترك زوجة وأربعة أطفال ، أكبرهم في الثالثة عشرة من عمرة .
وراجعت زوج الرجل دفاتر زوجها وسجلاته التجارية ، وأعانها على ذلك أخوها المحامي ن فعرفت ما في بطون أوراقه بتفصيلات ما لزوجها من ديون على الناس
ومرت الأيام والشهور على موت زوجها ، وبعثت إلى السيد جابر تطالبه بما لزوجها عليه من دين ، ولكن السيد جابر أنكر أنه مدين بشيء لزوجها ، وزعم أنه دفع ما كان عليه من دين إلى زوجها ، وربما نسي زوجها أن يرقن قيد الدين في سجلاته
وتسامع الناس بالحادث ، وكان بعضهم قد سمع بأن الشيخ إبراهيم دينه ، ولو كان مشغول الذمة لعثر ورثة الشيخ إبراهيم على سند الدين في مخلفاته ..
وانقسم الناس في المحلة من الجيران إلى قسمين : قسم يؤيد ورثة الشيخ إبراهيم ويذكرون أنه يقرض النقود حبة لله بدون مستند أو سفتجة ، وقسم يؤيد السيد جابر لأنه ليس من المعقول أن يدفع الشيخ إبراهيم مبلغاُ للسيد جابر بدون مستند أو سفتجة
والتجأت زوج الشيخ إبراهيم إلى بعض أهل الخير من المحلة ليحملوا السيد جابر على تبديل موقفه ، ولكنه أعرض وأصر وتمادى واستكبر ، كأنه صخرة عاتية من صخور الجبال ، وكما أن آخر الدواء الكي فإن آخر مطاف المتنازعين المحاكم .. ووكلت زوج الشيخ إبراهيم أخاها المحامي ليعرض شكواها على المحاكم ، وجاء يوم المحاكمة وحضر المتهم إلى ساحة المحكمة وأترك الكلام الآن للحاكم الأستاذ (.......) الذي قص على تفصيلات المحاكمة ، فكان مما قاله : كنت في قرارة نفسي مقتنعاً بأن السيد جابر مدين للشيخ إبراهيم بهذا المبلغ .
ولكن لم يكن هناك دليل مادي غير تسجيل هذا المبلغ بخط الشيخ إبراهيم في سجل ديونه على الناس ، وهذا الدليل وحده لا يكفي لإثبات التهمة .
ولم ينكر السيد جابر بأنه استقرض هذا المبلغ من الشيخ إبراهيم ، لكنه أفاد بأنه أعاد المبلغ إلى صاحبه بعد سنه من استقراضه ، وشهد أحد الرجال ، بأنه سمع السيد جابر يثني على الشيخ إبراهيم ، ويذكر أنه انتشله من وهدة الفقر والحرمان بإقراضه بعض المال حسبة لله ، ولكن الشاهد لم يتذكر مقدار المبلغ ولا وقت سماعه حديث السيد جابر . كانت القضية كلها كريشة في مهب الريح ، فحاولت أن أجر المتهم إلى الاعتراف بالدين ، كلنه كان يفلت من الاستجواب ، إن المحاكم في مثل هذه القضية ، تطبق المبدأ القضائي : البينة على من ادعى ، واليمين على من أنكر ..
وقلت للمتهم : هل تقسم بلله بأنك لست مديناً للسيخ إبراهيم بهذا المبلغ ولا بغيره، وأنك دفعت ما كان له عليك من دين ؟ وقال المتهم : أقسم بلله .. ثم أقسم ونطقت بالحكم : البراءة ..
وخرج المتهم مرفوع الرأس شامخاً من المحكمة ، وكان ذا هامة وقامة ، صحيح البدن قوي البنية ، سليماً معافى وهو في ريعان الشباب ..
وما كاد يغادر المحكمة ومعه المستمعون إلا وسمعت ضجة خارج المحكمة ، فهرعت لأتبين جلية الأمر .. وصعقت لأنني وجدت المتهم الذي كان ماثلاً أمامي قبل لحظات معدودات في أوج صحته ، وعنفوان شبابه ، وكمال رجولته ، ممداً على الأرض ، جاحظ العينين ، مفتوح الفم ، أصفر الوجه ، كأنه شجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار .
وهتف الناس من حوله : لقد مات ، كانت زوج الشيخ إبراهيم تسكن في دار قريبة من داري ، وكانت لها صلة قربى بأهلي .
واشتقت أن أسمع القصة منها ، فسألتها عن الخبر ، فكان مما قالته : كان الشيخ إبراهيم باراً بجيرانه خاصة وبالناس عامة وكان يقرض المحتاجين ويكتفي بتسجيل قرضه في سجل خاص وكنت ألومه على ذلك فيقول : المال مال الله ، وقد كنت فقيراً فأغناني ، وكنت يتيماً فآواني ، فلن أقهر يتيماً ولن أنهر سائلاً وكان يختم كلامه كل مرة بقوله : يا ليت لي في كل قبر ديناً وشهدت محاكمة السيد وأصغيت إلى أقواله ، وكنت لا أشك لأن الله يسمع ويرى .
وحكم القاضي بالبراءة بعد أن أقسم المتهم اليمين ، فلما أقسم اليمين اقشعر بدني ، فق
كننت مؤمنة بأنه كاذب وأنه اجترأ على الله عز وجل .
وقلت أخاطب الله سبحانه وتعالى : إنك تعلم السر وأخفى ، وإنك علام الغيوب ، فإن كان السيد جابر كاذباً في قسمه فاجعله عبرة للناس .. يا قوي يا جبار
وخرج المتهم من المحكمة وأنا أنظر إليه ، ولكنه سقط ميتاً على بعض خطوات من باب المحكمة ، لقد نجا السيد جابر من حكم الأرض ، ولكنه لم ينج من حاكم الأرض والسماوات ، ولم يكن الصراع يدور بينه وبين ورثة الشيخ إبراهيم ، بل كان الصراع بينه وبين جبار السماوات والأرض ..
وفي ليلة من ليالي الشتاء العاتية ، حين كان البرد قاسياً والمطر مدراراً وحين كان الناس يأوون إلى مضاجعهم لا يغادرونها ناعمين بالدفء والراحة ، في ذلك الوقت
في ساعة متأخرة من الليل البهيم ، كان جرس دار إبراهيم يرن قوياً متواصلاً ، وكان على الباب امرأة متشحة بالسواد ، يرافقها طفل في السادسة من عمره وفتحت زوج الشيخ إبراهيم الباب لترى من الطارق ، فوجدت زوج السيد جابر للسيدة زوج الشيخ إبراهيم : لقد أنكر زوجي بأنه مدين للشيخ إبراهيم ، ولكنني كنت أعرف أنه كاذب ، ورجوت أن يسدد ما عليه من دين ، وألححت في رجائي وألححت ، ولكنه ركب رأسه ، ومضى في غيه لقد دفع زوجي ثمن كذبه غالياً ، وهذا هو المبلغ الذي كان مديناً به لزوجك .
وألقت بكيس فيه خمسمائة وألف من الدنانير ، ثم عادت مسرعة أدراجها إلى دارها ، ومن ورائها ابنها ، قبل أن تسمع كلمة من زوج الشيخ إبراهيم وبقيت زوج الشيخ إبراهيم على باب دارها تنظر شبحين يخبان حتى لفهما الظلام .
وأوت إلى فراشها ، وهي تستمع إلى هطول المطر وعويل الريح .
الله لا ينسى النملة تحت صخرة ملساء سوداء .. فكيف ينساك أيها الإنسان .. أما قرأت قوله تعالى } وَمَا منْ دَابةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلمُ مُسْتَقَرهَا وَمُسْتودَعَهَا { (هود :6 ) وقوله صلى الله علي وسلام في الحديث الصحيح : " إن روح القدس نفث في روعي أنهم لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها "
إن الثقة بالله والإيمان به وتوحيده والتوكل عليه وحسن الظن به هو الطريق للخير والسعادة
والسلام عليكم
الوابل ( لووووووووووووول ) [/align][/frame]