(أمل، وما أدراك ما أمل؟!)
10:58 م, 25 ربيع الآخر 1436 هـ, 14 فبراير 2015 م2693711
(أمل، وما أدراك ما أمل؟!)
شيخة القاسم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: لا تخلو الحياة من مواقف وأحداث تحمل في طياتها الدروس والعظة والعبر، من هذه المواقف:
••بالتحديد قبل تسع سنوات، كنت في لقاء مع جمع من النساء، فلما هممتُ بالانصراف أوقفتني طفلة صغيرة في العاشرة من عمرها، ممسكة بيد والدتها، تسألني عن (سُنة الضحى). عجبتُ من حرصها على نوافل الطاعات رغم صغر سنها.. سألتها: (ما اسمكِ؟) قالت: (اسمي أمل). حُفِر هذا الاسم في ذاكرتي، ولم يدر في خلدي أنّي سألتقي بها بعد سنوات، ولكن على حال أخرى!
••ومرت الأيام والسنوات… هاتفتني يوماً ما زميلة تخبرني عن شابة صالحة خيّرة، تبلغ من العمر سبع عشرة سنة، ترقد من قرابة سنتين في المستشفى، أصيبت بورم في المخ، أعاقها عن الحركة والنطق، وأصرت أن نذهب معاً لزيارتها لما ورد في ذلك من فضل كما في قوله – صلى الله عليه وسلم -: (من عاد مريضاً أو زار أخاً له في الله ناداه منادٍ أن طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلاً).
••ذهبنا إلى المستشفى معاً، دخلنا لقسم العناية المركزة، ثم لغرفة المريضة. فإذا المريضة هي (أمل)! نعم (أمل)! لم أعرف أنها هي إلا عندما رأيت والدتها. الأجهزة الطبية تحيط بها، وجهاز التنفس في حنجرتها، لا تتكلم، لا تتحرك، فقط ترمقنا بعينيها.
••ما أضعفك أيها الإنسان! عاد بي شريط الذكريات يوم أن سألتني قبل سبع سنوات عن سُنة الضحى، تفعم بالحيوية والنشاط. والآن! صدق الله: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) هذه حال الدنيا! فلا حزن يدوم ولا سرور ولا عسر عليك ولا رخاء، ما أحرانا أن نلزم دعاء نبينا – صلى الله عليه وسلم -: (اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك).
••سألتها: أمل، هل عرفتيني؟ فرمشت بعينيها إلى أسفل، يعني (نعم). رقّ قلبي لحالها، أجهشتُ بالبكاء رحمة بها، ثم تذكّرت أنّ الله أرحم مني بها. حدثتها عن حكمة الابتلاء، وأنّ المصائب كفارة للذنوب، ورفعة للدرجات، وزيادة في الحسنات، وذكّرتها بلقائي بها قبل سنوات عند سؤالها عن صلاة الضحى، وبشرتها بحديث الرسول – صلى الله عليه وسلم -: (سبعة يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله.. شاب نشأ في طاعة الله)، وقلت: (نرجو من الله أن تكوني من هذا الصنف). تحدثت وتحدثت، وكلها أُذنٌ صاغية.
••أما والدتها – أسأل الله أن يأجرها – فما هوّن عليها هذا الابتلاء إلا بشارات نبينا – صلى الله عليه وسلم – لأهل البلاء الصابرين كقوله: (لا يزال البلاء في المؤمن في نفسه أو ماله أو ولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة). دعوتُ لأمل وودعتها وانصرفت.
••لم تنته القصة بعد.. بعد مرور عدة أشهر، هاتفتني والدتها تبشرني بأن (أمل) أنطقها الله الذي أنطق كل شيء، وأنها – ولله الحمد – أصبحت قادرة على تحريك يديها وقدميها. ذهبت لزيارتها في المستشفى، دخلت الغرفة، وألقيت السلام. فردت أمل: وعليكم السلام ورحمة الله. (كيف حالك؟): (الحمد لله بخير). سبحان من يحيي العظام وهي رميم! كنت أستمع لكل كلمة تقولها أمل، وكأنّي أول مرة أرى إنساناً يتكلم. أبدت أمل فرحتها وسعادتها بأن تفضل الله عليها بنعمة الكلام، تذكر الله، تفصح عما في نفسها، وأبدت رغبتها في تغطية وجهها عن الطبيب، فقاطعتها والدتها مبينةٌ لها صعوبة الغطاء لوجود جهاز التنفس في حنجرتها. سبحان الله! قلوب الأتقياء معلقة بالطاعات.. أين أنتِ أيتها السافرة المتبرجة يا من تظهرين شعرك ووجهك أمام الرجال وأنتِ بكامل صحتك وقوتك، أما لكِ في أمل المريضة درس وقدوة؟!
••كأني بك الآن – أيها القارئ – يدور في نفسك سؤال: (كيف نطقت أمل وتحركت؟) لا أخفيك سراً أني سألت والدتها هذا السؤال.. فأجابت: في العشر الأخيرة من رمضان، غلب على ظني في إحدى لياليه أنّ هذه الليلة هي ليلة القدر، فاتصلتُ بأختها المرافقة معها تلك الليلة في المستشفى أن تتصدق على عاملة النظافة المناوبة (مصرية مسلمة). أما أنا – والحديث لوالدتها – فاجتهدت بالدعاء لابنتي أمل أن يفرج ربي كربها.
••وجاء الفرج! عادت ابنتي بعد أن تصدقت إلى غرفة أمل، فإذا هي تحرك يديها وقدميها! ذُهلت واحتارت هل تبشرني أم تستدعي الأطباء الذين ألجمهم الموقف! ما أعظم أثر الدعاء، تفريج للكرب، وزوال للهموم. ما أعظم أثر الصدقة، قربة إلى الله، ودفع للبلاء. ذكر ابن القيم: (أن من أسباب إجابة الدعاء: أن يقدم الداعي بين يديه صدقة)، فلعل الصدقة والانكسار والتذلل بين يديّ الله في ليلة مباركة كان سبباً في تفريج الكربة، وعلم ذلك كله إلى الله الذي جعل لكل شيء قدراً.
••خرجت أمل من المستشفى على كرسي متحرك، صابرة على ما أصابها، ولسانها لا يفتر عن ذكر الله، وقراءة القرآن، والدعاء.
••خرجت أمل من المستشفى وكأنها تقول لمن علِم بحالها: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
••خرجت أمل من المستشفى وكأنها تقول لمن حولها: (إنّ المعاق الحقيقي هو من أعاقه الهوى عن اتباع الهدى). أسأل الله لأمل الشفاء التام، وما ذاك على الله بعزيز.