تحدثنا سابقًا عن الفترة قبيل إسلام عمر أنَّ عمر كان يعيش صراعًا نفسيًّا حادًّا؛ فهو من جانبٍ يَشعر بروعة كلمات القرآن التي سمعها في مواقف قليلة من حياته؛ وسبب قلَّة سماعه للقرآن أنَّ الكفار كانوا يمنعون الناس من سماع القرآن الكريم؛ قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ [فصلت: 26]، ومن المحتمل أنَّ عمر نفسه كقائدٍ مكيٍّ كبيرٍ كان من الذين يمنعون الناس من سماع القرآن، فلن يسمعه هو بالتبعيَّة إلَّا نادرًا؛ هذا من جانب، ومن جانبٍ آخر فهو يرى أنَّ مكة صارت تعيش مشكلةً كبيرة، وأنَّها نسيت الهدوء الذي كان يُظَلِّل جنباتها، وصارت هناك مناظرات ومجادلات يوميَّة، وعمليَّات تعذيب وإيذاء، وشقاق بين القبائل والعشائر، وفراق بين الابن وأبيه، والأخ وأخيه.. شاهد كلَّ ذلك، وفكَّر في أصله، فوجده محمدًا صلى الله عليه وسلم!
إنَّ الدعوة التي جاء بها هذا الرجل هي التي أحدثت هذه الصراعات في رأيه، وثبات أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مرهون بوجوده هو؛ ومن ثَمَّ لن تنتهي الأزمة إلَّا باختفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم! ومن هنا راودته فكرة قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم!
هذه الفكرة ليست جديدة؛ بل فكَّر فيها آخرون في مكة، ومرَّت بنا محاولة عقبة بن أبي معيط لعنه الله[1]، وكلام أبي جهل، ولا شكَّ أنَّها أمنيةٌ كانت عند كثيرٍ من زعماء الكفر؛ يقول عمرو بن العاص رضي الله عنه، وهو يحكي عن فترة جاهليَّته: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنِّي، وَلَا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ قَدِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ، فَقَتَلْتُهُ»[2]. وأقسم أُبَيُّ بن خلف زعيم المشركين قائلًا: «والله لأقتلنَّ محمدًا»[3]. فهذه كانت فكرة قويَّة تتردَّد بين زعماء الكفر آنذاك.
وإن كانت هذه الفكرة خطيرة، وتدعو إلى كثيرٍ من التردُّد حين الإقدام عليها، فإنَّ عمر لم يكن يُصيبه هذا التردُّد الذي يُصيب الناس؛ لطبيعته الحاسمة، وشخصيَّته التي لا تقبل المهادنة أو التلوُّن، ولقد رأيناه بعد إسلامه يُقْدِم كثيرًا على طرح فكرة القتل كحلٍّ مباشرٍ لكثيرٍ من المواقف؛ فهو الذي طرح هذا الحلَّ في مسألة التعامل مع أسرى بدر، وهو الذي اقترح هذا في التعامل مع زعيم المنافقين في المدينة عبد الله بن أُبيِّ ابن سلول، وهو الذي اقترح هذا مع اليهودي زيد بن سَعْنَة عندما تعدَّى على الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الذي اقترح هذا عندما أفشى حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه للكفار سرَّ فتح مكة، ففكرة الحسم في حلِّ المشكلات ليست غريبة على شخصيَّة عمر؛ لأنَّه يشعر بقوَّة شخصيَّته، وهذه تُوَفِّر له حماية، على الأقل من وجهة نظره؛ لأنَّها في بعض الأحوال تسلمه إلى مشكلات كبيرة كما سيظهر من مواقفه فور إعلان إسلامه، هذا كله بالإضافة إلى أنَّ عمر كان سفيرًا لمكة، ولعلَّ هذا المنصب أعطاه في حياته كثيرًا من الصلاحيَّة لاتخاذ بعض القرارات وتنفيذها دون الرجوع إلى زعماء مكة؛ ممَّا جعله يُقْدِم على الفعل دون مراجعةٍ لهم؛ خاصَّةً وهو يعلم أنَّ هناك موافقة ضمنيَّة من هؤلاء الزعماء على إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والتعرُّض له.
هذه شخصيَّة عمر وطبيعته..
ومن هنا فعند ظهور فكرة قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذهنه لم يكن هناك وقتٌ طويلٌ للتردُّد؛ بل كان الإقدام الفوري على الفعل، فأخذ سيفه وخرج لحسم المسألة، وليفعل ما عجز الكثير من أقوياء مكة على الإقدام عليه.
وكان قد دفعه إلى أخذ هذا القرار -أيضًا- ما حدث قبل ثلاثة أيَّام من إهانة شديدة لأبي جهل في مكة على يد عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة رضي الله عنه، الذي أصبح على دين محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت حرارة هذا الدافع نابعة من كون أبي جهل خالًا لعمر بن الخطاب، وقد رأى عمر أنَّه قد أُصيب في كرامته تمامًا كما أُصيب أبو جهل، ورَدُّ الاعتبار في هذه البيئة عادةً ما يكون بالسيف.
لقد كان قررًا معقَّدًا؛ لكنَّه لم يأخذ وقتًا طويلًا للتفكير فيه، أو في نتائجه..
وعلى الرغم من أنَّه لم يكن يعرف مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث -وإلى هذه اللحظة- لم يعرف أحدٌ في مكة بعدُ دار الأرقم بن أبي الأرقم، خرج عمر بن الخطاب من بيته متوشِّحًا سيفه قاصدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبحث عنه لقتله!
وفي الطريق لقيه نعيم بن عبد الله النحام رضي الله عنه، وكان من المسلمين الذين أخفوا إسلامهم، وكان -أيضًا- من قبيلة عمر من بني عدي، وكان من السهل على نعيم أن يقرأ الشرَّ في قسمات وملامح وجه عمر، فأوقفه نعيم رضي الله عنه وقال له: أين تريد يا عمر؟
ولأنَّه صريحٌ لا يكذب، ولا يُنافق، ولا يُداهن؛ لعدم حاجته إلى مثل هذه الصفات، ومن ناحية أخرى فهو لا يعرف نبأ إسلام نعيم، قال عمر في غاية الصرامة والجدية: أُريد محمدًا، هذا الصابئ، الذي فرَّق أمر قريش، وسفَّه أحلامها، وعاب دينها، وسفَّه آلهتها؛ فأقتله.
ارتعب نعيم رضي الله عنه حين سمع مقالة عمر، وقد رأى خطرًا دفينًا مقبلًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هناك وقتٌ لتنبيهه، وإزاء هذه الأزمة الكبيرة اضطرَّ نعيم رضي الله عنه إلى أن يكشف لعمر عن سرٍّ خطير؛ علَّه أن يُلهيه به عن هذا الإقدام، وذاك التفكير، فأماط اللثام عن إسلام أخته وزوج أخته معًا، فكشف له عن إيمان فاطمة بنت الخطاب رضي الله عنها أخت عمر، وعن إيمان زوجها سعيد بن زيد رضي الله عنه، نعم كان من الممكن أن يقتلهما عمر؛ لكن في المقابل سيستطيع نعيم أن يبلِّغ الرسول صلى الله عليه وسلم ليأخذ حذره؛ ولكنه في الوقت نفسه سلك مسلكًا موازيًا لعلَّه يُهَدِّئ من روع عمر. قال نعيم: والله لقد غرَّتك نفسك من نفسك يا عمر؛ أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدًا؟!
ثمَّ ألقى بقنبلته المدوِّية فقال: أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتُقيم أمرهم؟
وفي فزع قال عمر: أي أهل بيتي؟!
فألقى نعيم ما في جَعْبَته قائلًا: ابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما وتابعَا محمدًا على دينه؛ فعليك بهما.
نسي عمر ما كان يُفَكِّر فيه، وأسرع من توِّه -كما توقَّع نعيم- إلى عقر داره، وبيت أخته، الذي اخترقه محمد صلى الله عليه وسلم، لا يلوي على أحد.
في تلك الأثناء كان خباب بن الأرت رضي الله عنه يجلس مع سعيد بن زيد وزوجته رضي الله عنهما في بيتهما يُعَلِّمهما القرآن؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَسِّم المسلمين إلى مجموعات، كل مجموعة تتدارس القرآن فيما بينها، ثُمَّ يجتمعون بعد ذلك في لقاءٍ جامعٍ معه صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وقد كان خباب رضي الله عنه يقوم بدور المعلم لسعيد وزوجته.
وصل عمر إلى بيت أخته، وقبل دخوله سمع همهمة وأصواتًا غريبة، ولنا أن نتخيَّل حالته العصبيَّة وهو يطرق الباب!
أدرك مَنْ في الداخل أنَّ عمر بالباب، فأسرع خباب رضي الله عنه -وكان من الموالي- بالاختفاء في غرفة داخليَّة، وقد قال: لئن نجا سعيد بن زيد وفاطمة بنت الخطاب فلن ينجو خباب.
وفتح سعيد الباب، ودخل عمر وهو يحترق من الغضب، لا يُسيطر على نفسه، والكلمات تتطاير من فمه، والشرر يُقذف من عينيه، ودون استئذان يسأل: ما هذه الهمهمة التي سمعتُ؟
ردَّا عليه: ما سمعتَ شيئًا.
قال عمر: بلى، والله لقد أُخبرتُ أنكما تابعتما محمدًا على دينه!
ثمَّ ألقى بنفسه على سعيد يبطش به، وهنا تدخَّلت الزوجة الوفيَّة فاطمة رضي الله عنها تُدافع عن زوجها، فوقفت بينهما تدفع عمر عنه، وفي لحظة غضب عارمة التفت عمر إلى أخته، ولم يُدرك نفسه إلَّا وهو يضربها ضربةً مؤلمة، تفجَّرت على إثرها الدماء من وجهها.
وإزاء ما حدث -وفي تحدٍّ واضح- وقف سعيد بن زيد رضي الله عنه يتحدَّى عمر ويقول: نعم، قد أسلمنا وآمنَّا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك.
وإن تَعْجَبْ فعَجَبٌ موقف أخته فاطمة المرأة الضعيفة، وقد وقفت هي الأخرى في تحدٍّ صارخ، وأمسكت بوجه أخيها عمر، وهي تقول له: وقد كان ذلك على رغم أنفك يا عمر.
ذُهِل عمر! ما هذا الذي يحدث؟! هل هذه هي أخته؟ وما الذي جرَّأَها إلى هذه الدرجة؟!
وعلى شدَّة بأسه، وقوَّة شكيمته، شعر عمر أنَّه ضعيف وصغير، لا يستطيع أن يقف أمام هذه المرأة، لقد شعر وكأنها أصبحت جبلًا أشمَّ يقف أمامه!
لقد تغيَّرت الدنيا وهو لا يدري! وعلى الرغم من ذلك، وفي تعبيرٍ عن رقَّة عظيمة في قلبه، تختفي وراء هذه الغلظة الظاهرة، قال عمر: فاستحييتُ حين رأيتُ الدماء.
وعجيب أن يستحي رجل من رؤية دماء تسيل على وجه امرأة خرجت عن دينه، ووقفت أمامه وتحدَّته، وبالأخصِّ في هذه البيئة القبلية الجاهلية، تلك التي كانت تفقد فيها المرأة كثيرًا من حقوقها؛ مما يُؤَكِّد أن عمر كان يُخفي رقَّته وشفقته وراء ستار من الغلظة، ولقد اختار هذا اللون من الطباع كي يعيش قويًّا في بيئة قاسية مملوءة بالذئاب!
وفي تنازل كبير جدًّا يقول عمر: «فجلستُ، ثمَّ قلتُ: أروني هذا الكتاب». ولكن جاءته اللطمة الثانية الموجعة، التي لم يكن يتوقَّعها على الإطلاق؛ حيث قالت له أخته فاطمة: يا أخي، إنك نجس على شركك، وإنه لا يمسه إلا طاهر.
وعلى عكس ما كان يتوقَّعه أحد، قام عمر -وفي هدوء عجيب- ليغتسل!
بعد اغتساله أعطته فاطمة رضي الله عنها الصحيفة يقرؤها، وبلسانه وعقله وقلبه قرأ عمر: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم﴾، فقال: أسماء طيِّبة طاهرة.
ثمَّ قرأ: ﴿طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [طه: 1-8].
تزلزل عمر رضي الله عنه، وقد وجد نفسه خاشعًا متصدِّعًا من خشية الله، وفي لحظةٍ قد خالط الإيمان فيها قلبه قال عمر: فتعظَّمَت في صدري، فقلتُ: ما أحسن هذا الكلام! ما أجمله!
كانت هذه واحدة من أعظم لحظات البشريَّة على الإطلاق، لحظة تَحَوَّلَ فيها رجلٌ يسجد لصنم، ويُعَذِّب المؤمنين، إلى عملاقٍ من عمالقة الإيمان، وإلى فاروقٍ فرَّق الله به بين الحقِّ والباطل، وإلى رجلٍ يُراقب الله في كلِّ حركةٍ وكلِّ سكنة، وفي كلِّ كلمةٍ وكلِّ همسة؛ لقد تحرَّك قلب الرجل الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه: «لَوْ كَانَ نَبِيٌّ بَعْدِي لَكَانَ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ»[4]. إنَّها ثماني آياتٍ فقط، صنعت الأسطورة الإسلاميَّة العجيبة عمر رضي الله عنه!
وحين سمع خباب رضي الله عنه كلمات عمر خرج من مخبئه وقال: يا عمر، والله إنِّي لأرجو أن يكون الله قد خصَّك بدعوة نبيِّه، فأني سمعته أمس وهو يقول: «اللَّهُمَّ أَيِّدِ الإِسْلامَ بِأَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ، أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ». فالله الله يا عمر.
عند ذلك قال عمر مُقرًّا ومعترفًا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم: فأين رسول الله؟
قال خباب: فإنه في دار الأرقم.
أخذ عمر سيفه فتوشَّحه، ثُمَّ انطلق من جديد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكنه انطلق في هذه المرَّة بقلب مؤمن، وعند دار الأرقم ضرب عمر الباب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، فقام رجلٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر من خلال الباب فوجد عمر، فرجع فزعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشِّحًا السيف.
كان في بيت الأرقم آنذاك ما يقرب من أربعين صحابيًّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الرغم من هذا العدد فقد قام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه يُدافع عن الجميع، ويتصدَّر هذا الموقف الخطير؛ مع أنَّ الإيمان لم يُخالط قلبه إلَّا منذ ثلاثة أيَّامٍ فقط! قام حمزة يقول في صلابة: «ائذن له، فإن كان جاء يُريد خيرًا بذلناه له، وإن أراد شرًّا قتلناه بسيفه».
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائذنوا له.
فُتِح لعمر رضي الله عنه، فدخل إلى الدار المباركة، دار الأرقم بن أبي الأرقم، ثمَّ أدخلوه في حجرة، وقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليه، واقترب منه، ثُمَّ أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجمع ردائه، ثمَّ جبذه نحوه جبذةً شديدة، وقال له في قوَّة: «مَا جَاءَ بِكَ يَابْنَ الخَطَّابِ؟ فَوَاللهِ مَا أَرَى أَنْ تَنْتَهِيَ حَتَّى يُنْزِلَ اللهُ بِكَ قَارِعَةً».
عندئذٍ ردَّ عمر بصوت منخفض: يا رسول الله، جئت لأؤمن بالله وبرسوله، وبما جاء من عند الله.
الله أكبر!
انتصارٌ كبيرٌ للدعوة؛ خاصَّةً بعد دخول حمزة رضي الله عنه في دين الله عزَّ وجلَّ.
والفرحة في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم لا تُوصف، وكان أوَّل ردِّ فعلٍ له أن كبَّر اللهَ عز وجل: الله أكبر! الله أكبر! إنَّه سبحانه هو الذي صنع هذه المعجزة.
عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ عمر قد أعلن إسلامه، فدخلوا عليه يُهَنِّئُونه ويُباركونه جميعًا، وأصبح العدوُّ القديم صديقًا ورفيقًا.
وكما وُلِد حمزةُ عملاقًا، فإنَّ عمر -أيضًا- وُلِد عملاقًا رضي الله عنهما؛ لقد وُلِد عمر فقيهًا، حازمًا، واضحًا، صريحًا، مضحِّيًا، فكانت أولى كلماته بعد إسلامه: يا رسول الله، ألسنا على الحقِّ؟
ولاحِظْ أنَّه يستخدم من فوره صيغة الجمع؛ فقد انصهر في الطائفة المؤمنة في لحظةٍ واحدة.
قال: «بَلَى».
قال عمر: ففيم الاختفاء؟!
منذ أن أعلن عمر إسلامه حسب نفسه واحدًا من المسلمين، وقد أخذ يقترح عليهم الاقتراحات، ويُفَكِّر كيف يخدم هذا الدين، وما الأنفع والأصلح للدعوة، وكان هذا هو عمر!
ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يُرَتِّب حساباته بدقَّة، وكان الاختفاء في السنوات الستِّ السابقة لأسباب، أمَّا الآن فقد تغيَّر الوضع، وبعد أن كان للاختفاء مزايا، أصبح للإعلان مزايا؛ فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم حساباته ثانيةً من جديد؛ وذلك بعد إيمان البطلين حمزة وعمر رضي الله عنهما.
رجلان فقط من المسلمين غيَّرا مسار الدعوة الإسلامية بكاملها في هذه الفترة الحرجة.
ووافق رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإعلان، وسيظهر المسلمون في مكة، وتُقْضَى الشعائر أمام كلِّ الناس، وفي وضح النهار.
لقد اختفى المسلمون هذه السنوات بكاملها حفاظًا على وجودهم، واستمرارًا لأمر الدعوة، مع أن الاختفاء له عيوب كثيرة، ومشاكل متعدِّدة؛ ولكن تحمَّلها المسلمون، وقبلوا بها لمناسبة المرحلة لذلك، أمَّا الآن فيُمكن الإعلان مع تحقيق إيجابيَّاته الكثيرة، التي من أهمِّها ازدياد فرصة إيمان أهل مكَّة بشكلٍ كبير، فلا شكَّ أنَّ فرصة عمل المسلمين مجتمعين عندما يظهرون ستكون أكبر، وستكون عندهم القدرة على الحديث عن الإسلام بوضوح مع الناس، ومَنْ كان متردِّدًا في مفاتحة صديق أو قريب في أمر الدين الجديد، سيجد الفرصة سانحة الآن، كما أنَّ أهل مكة سيرون كرام الناس قد اعتنقوا هذا الدين، فيكون ذلك حافزًا لهم على التفكير فيه، ثم الارتباط به، وإنَّ دينًا قائد الناس فيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأتباعه أمثال أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، ومصعب، وسعد، وغيرهم، لهو دينٌ جديرٌ بالاحترام والتقدير، فهؤلاء صفوة شباب مكة وخيرة مفكِّريها، وستكون الدعوة أقرب كذلك إلى قلوب النساء والأطفال؛ حين يرون العائلات المسلمة متآلفة متحابَّة، وستُصبح خديجة، وفاطمة بنت الخطاب، وأسماء بنت عميس، وأم الفضل، وأم سلمة، وغيرهن من النساء المسلمات، حديث النساء في كل المحافل والمنتديات.
إنَّها فترة جديدة ستحمل خيرًا كثيرًا بكل الحسابات.
أخذ المسلمون القرار من حينها، وفي اللحظة نفسها خرج المسلمون في صَفَّيْنِ، عمر على أحدهما، ولم يكن آمن إلَّا منذ دقائق، وحمزة على الآخر، وكان قد آمن منذ ثلاثة أيام فقط، ومن دار الأرقم إلى المسجد الحرام، حيث أكبر تجمُّع لقريش، سارت المجموعة الإسلاميَّة المؤمنة!
ومن بعيد نظرت قريش إلى عمر وحمزة رضي الله عنهما، وهما يتقدَّمان المسلمين، فَعَلَتْ وجوهَهم كآبةٌ شديدة، يقول عمر: فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاروق يومئذٍ.
وفي شوق ولهفة عارمة لأن يَعلم ألدُّ أعداء الإسلام خبرَ إسلامه نظر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسجد الحرام فلم يجد أبا جهل، حينها قرَّر أن يذهب إليه في بيته، ويُخبره بنفسه أمر إسلامه، وهذه هي مواقف عمر التي لا يقوى عليها غيره، بل لا يُفَكِّر فيها سواه!
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الرحمن بن الحارث عن بعض آل عمر، أو بعض أهله، قال: قَالَ عُمَرُ: لَمَّا أَسْلَمْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، تَذَكَّرْتُ أَيَّ أَهْلِ مَكَّةَ أَشَدَّ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَدَاوَةً؛ حَتَّى آتِيَهُ فَأُخْبِرَهُ أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ. قَالَ: قُلْتُ: أَبُو جَهْلٍ -وَكَانَ عُمَرُ لِحَنْتَمَةَ بِنْتِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ[5]- فَأَقْبَلْتُ حِينَ أَصْبَحْتُ حَتَّى ضَرَبْتُ عَلَيْهِ بَابَهُ، فَخَرَجَ إِلَيَّ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا بِابْنِ أُخْتِي، مَا جَاءَ بِكَ؟ قَالَ: جِئْتُ لأُخْبِرَكَ أَنِّي قَدْ آمَنْتُ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ، وَصَدَّقْتُ بِمَا جَاءَ بِهِ. قَالَ: فَضَرَبَ الْبَابَ فِي وَجْهِي، وَقَالَ: قَبَّحَكَ اللهُ، وَقَبَّحَ مَا جِئْتَ بِهِ[6].
فرح عمر فرحًا شديدًا؛ كونه كاد أبا جهل، ذلك الذي كان معه وعلى طريقته منذ قليل؛ لكن الإسلام نَقَلَه نقلة ضخمة جدًّا؛ لكن عمر ما زال يُريد أن يُعْلِم الجميع خبر إسلامه، ففكَّر في فكرة عجيبة لا يكاد يفعلها إلا الفاروق!
يروي ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا أَسْلَمَ أَبِي عُمَرُ قَالَ: أَيُّ قُرَيْشٍ أَنْقَلُ لِلْحَدِيثِ؟ فَقِيلَ لَهُ: جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ الْجُمَحِيُّ. قَالَ: فَغَدَا عَلَيْهِ. قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: فَغَدَوْتُ أَتْبَعُ أَثَرَهُ، وَأَنْظُرُ مَا يَفْعَلُ، وَأَنَا غُلَامٌ أَعْقِلُ كُلَّ مَا رَأَيْتُ، حَتَّى جَاءَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَعَلِمْتَ يَا جَمِيلُ أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ، وَدَخَلْتُ فِي دِينِ مُحَمَّد؟ قَالَ: فَوَاللهِ مَا رَاجَعَهُ حَتَّى قَامَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ وَاتَّبَعَهُ عُمَرُ، وَاتَّبَعْتُ أَبِي، حَتَّى إذَا قَامَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ -وَهُمْ فِي أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ- أَلَا إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَدْ صَبَأَ. قَالَ: ويَقُولُ عُمَرُ مِنْ خَلْفِهِ: كَذَبَ، وَلَكِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ، وَشَهِدْتُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَثَارُوا إلَيْهِ، فَمَا بَرِحَ يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ حَتَّى قَامَتِ الشَّمْسُ عَلَى رُءُوسِهِمْ. قَالَ: وَطَلِحَ[7]، فَقَعَدَ وَقَامُوا عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ: افْعَلُوا مَا بَدَا لَكُمْ، فَأَحْلِفُ باللَّه أَنْ لَوْ قَدْ كُنَّا ثَلَاثَماِئَةِ رَجُلٍ لَقَدْ تَرَكْنَاهَا لَكُمْ، أَوْ تَرَكْتُمُوهَا لَنَا. قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ، إذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ، عَلَيْهِ حُلَّةٌ حِبَرَةٌ[8]، وَقَمِيصٌ مُوَشًّى، حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: صَبَأَ عُمَرُ. فَقَالَ: فَمَهْ[9]، رَجُلٌ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَمْرًا، فَمَاذَا تُرِيدُونَ؟ أَتَرَوْنَ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ يُسْلِمُونَ لَكُمْ صَاحِبَهُمْ هَكَذَا! خَلُّوا عَنِ الرَّجُلِ. قَالَ: فوالله لَكَأَنَّمَا كَانُوا ثَوْبًا كُشِطَ عَنْهُ، قَالَ: فَقُلْتُ لأَبِي بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ: يَا أَبَتْ، مَنِ الرَّجُلُ: الَّذِي زَجَرَ الْقَوْمَ عَنْكَ بِمَكَّةَ يَوْمَ أَسْلَمْتُ، وَهُمْ يُقَاتِلُونَكَ؟ فَقَالَ: ذَاكَ، أَيْ بُنَيَّ، الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ[10].
ولنا بعض التعليقات على مسألة إسلام عمر رضي الله عنه في مقالٍ قادمٍ إن شاء الله.
[1] قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الكَعْبَةِ وَجَمْعُ قُرَيْشٍ فِي مَجَالِسِهِمْ؛ إِذْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: أَلَا تَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا الـمُرَائِي؟ أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى جَزُورِ آلِ فُلَانٍ، فَيَعْمِدُ إِلَى فَرْثِهَا وَدَمِهَا وَسَلَاهَا، فَيَجِيءُ بِهِ، ثُمَّ يُمْهِلُهُ حَتَّى إِذَا سَجَدَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَاهُمْ -وفي رواية: عقبة بن أبي معيط-، فَلَمَّا سَجَدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَثَبَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدًا، فَضَحِكُوا حَتَّى مَالَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ مِنَ الضَّحِكِ، فَانْطَلَقَ مُنْطَلِقٌ إِلَى فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ -وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ- فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى، وَثَبَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدًا حَتَّى أَلْقَتْهُ عَنْهُ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَسُبُّهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ، قَالَ: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ». ثُمَّ سَمَّى: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعُمَارَةَ بْنِ الوَلِيدِ». قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَوَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى القَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَأُتْبِعَ أَصْحَابُ القَلِيبِ لَعْنَةً» البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة، (3641)، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين، (1794). والبخاري: أبواب سترة المصلي، باب المرأة تطرح عن المصلي شيئًا من الأذى، (498)، واللفظ له، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين، (1794).
[2] مسلم: كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج، (121).
[3] عبد الرزاق الصنعاني: المصنف (9731).
[4] الترمذي: كتاب المناقب، باب في مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه (3686)، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، وقال: حديث حسن. وأحمد (17441)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن. والحاكم (4495)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، والطبراني: المعجم الكبير، (14163)، وحسنه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة، (327).
[5] قال بدر الدين العيني: حنتمة بنت هاشم بن المغيرة... وقال أبو عمر: والصحيح أنها بنت هاشم، وقيل: بنت هشام. فمَنْ قال: بنت هشام فهي أخت أبي جهل؛ ومَنْ قال: بنت هاشم فهي ابنة عمِّ أبي جهل. انظر: بدر الدين العيني: عمدة القاري 1/18، وقال أبو شهبة: يقصد ابن إسحاق أن عمر ابن حنتمة بنت هشام أخت أبي جهل عمرو بن هشام، والصواب أن أم عمر هي ابنة عمِّ أبي جهل وليست أخته؛ لأنها حنتمة بنت هاشم، وليس هشام. ولعلَّ الوهم جاء من تسميته بابن أخته، والعرب قد يطلقون على بنت العمِّ أختًا، وعلى ابنها ابن الأخت. انظر: أبو شهبة: السيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة 1/357.
[6] ابن هشام: السيرة النبوية 1/350، وأحمد بن حنبل: فضائل الصحابة 1/284 (375)، والصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد 2/374.
[7] طلح: أعيا، والطَّلاحة: الإِعياء والسقوط من السفر.
[8] الحبرة: ضرب من برود اليمن، برد مخططة بالنقش.
[9] فمَهْ: أي فماذا للاستفهام، فأبدل الألف هاء للوقف والسكت، وقيل: مَهْ: زجرٌ ونهيٌ، ومَهْ كلمة بُنِيت على السكون، وهو اسمٌ سُمِّي به الفعل؛ معناه: اكْفُفْ؛ لأنَّه زجرٌ. وقيل: بمعنى اسكت.
[10] ابن إسحاق: السير والمغازي ص184، 185، وابن هشام: السيرة النبوية 1/348، 349، وقال ابن كثير: وهذا إسناد جيد قوي. انظر: البداية والنهاية 3/103، وصحح إسناده الصالحي الشامي، انظر: سبل الهدى والرشاد 2/374، وصحح إسناده الصوياني، انظر: السيرة النبوية 1/118.
د.راغب السرجاني