فالله جل في علاه انفرَد باختيار ما يريد، واختص باصطفاء ما يشاء، سواء من الأشخاص أو الأماكن أو الأزمان؛ كما قال قتادة رحمه الله تعالى: "إن الله اصطفى صَفَايا من خلقه؛ اصطفى من الملائكة رسلًا، ومن الناس رسلًا، واصطفى من الكلام ذِكرَه، واصطفى من الأرض المساجدَ، واصطفى مِن الشهور رمضان والأشهرَ الحُرُم، واصطفى مِن الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلةَ القدر، فَعَظِّموا ما عظَّم الله؛ فإنما تُعَظَّم الأمور بما عظَّمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل"؛ ذكره الحافظ في تفسيره 4 /149.
ومما اختاره الله وعظَّمه: الأشهر الحُرُم؛ ومنها شهرُ اللهِ المُحرَّم: فاتحة السنة الهجرية.
وقد وردت أحاديثُ كثيرةٌ تُرغِّب في استغلال هذا الشهر الكريم في عبادةٍ هي من أجلِّ العبادات وأعظم القُرُبات؛ الصيام.
• وقبل ذكر بعض هذه الأحاديث، لا بأس أن نذكر شيئًا مما ورد في فضل صيام التطوع عمومًا:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من عبدٍ يصوم يومًا في سبيل الله إلا باعَدَ الله بذلك اليومِ وجهَه عن النار سبعين خريفًا))؛ متفق عليه.
وفي الحديث القدسي: ((كلُّ عملِ ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به...))؛ متفق عليه.
وعن أبي أُمامة رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسول الله، مُرْنِي بعمل، قال: ((عليك بالصوم؛ فإنه لا عِدلَ له...))؛ صحيح الترغيب والترهيب.
وفي رواية للنسائي: "قال: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، مُرْنِي بأمرٍ ينفعني الله به، قال: ((عليك بالصيام؛ فإنه لا مِثلَ له))"؛ صحيح سنن النسائي.
وفي رواية: قلتُ: يا رسول الله، دُلَّني على عمل أدخلُ به الجنةَ، قال: ((عليك بالصوم؛ فإنه لا مثل له))؛ صحيح ابن حبان، والأحاديث في ذلك كثيرة.
أما بخصوص شهر الله المحرم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد رغَّب في إكثار الصيام فيه ترغيبًا ليس بعده ترغيب، ومما ورد في ذلك:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((أفضلُ الصيام بعد رمضان شهر الله المُحرَّم...))؛ رواه مسلم، وأصحاب السنن.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ وأي الصيام أفضل بعد شهر رمضان؟ فقال: ((أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبةِ الصلاةُ في جوفِ الليل، وأفضلُ الصيام بعد شهر رمضان صيامُ شهرِ الله المحرَّم))؛ صحيح أبي داود.
وعن جندب رضي الله عنه مرفوعًا: ((أفضلُ الصيام بعد رمضانَ الشهرُ الذي تدْعونه المُحرَّم))؛ رواه النسائي، وصحَّحه العلامة الألباني، وهو في صحيح الجامع، تحت رقم 1121.
فهذه الأحاديث الصحيحة وغيرُها تدلُّ على أن أفضل الصيام المتطوَّع به الصيامُ في شهر الله المحرم، وآكدُ هذا الشهرِ العظيم يومُ عاشوراء؛ لِما ورد فيه من الأحاديث الثابتة، وهو اليوم العاشر عند جماهير أهل العلم؛ كما أشار إلى ذلك الحافظ في الفتح، والإمام الصنعاني في سبل السلام، وغيرهما.
ومما ورد في فضل صيام هذا اليوم:
حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: ((يُكفِّر السنة الماضية))؛ رواه مسلم.
وفي رواية: ((وصيام يوم عاشوراء، أحتسب على الله أن يُكفِّر السنة التي قبله))؛
صحيح مسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ما رأيتُ النبي صلى الله عليه يتحرَّى صيام يوم فضَّله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر يعني شهر رمضان"؛ رواه البخاري في صحيحه.
والأفضل صيام يوم عاشوراء مع اليوم الذي قبله - أي: اليوم التاسع - لِما ورد في صحيح مسلم وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم لَمَّا أمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يوم يُعظِّمه اليهود والنصارى؟ فقال: ((إذا كان العام المقبل - إن شاء الله - صُمْنا التاسع)).
وفي لفظ: ((لئن بقيتُ إلى قابلٍ، لأصومنَّ التاسع))؛
رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما.
فلم يأتِ العام المقبل حتى تُوفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال العلامة صدِّيق حسن خان: "واستحب أكثرُهم أن يصوم التاسع والعاشر"؛ الروضة الندية.
فهلُمَّ إخواني وأخواتي، لاستغلال هذا الشهر المفضال،وصوم ما تيسَّر منه؛ إرضاء للكبير المتعال، وطمعًا في حسنات كالجبال، وجنةٍ هي واللهِ نِعم المقام والمآل، لمن صبر على طاعة ربه بالأيام والليال، وجاهَد نفسَه للتقرب إلى الله بصالح الأفعال؛ فإنه سبحانه جَوَادٌ عظيم الإكرام والإفضال.
﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾
[آل عمران: 133].