[align=center]لماذا لا نتعلم التسامح؟
بقلم أحمد دعدوش[/align]
التعصب صفة لصيقة بشعوبنا منذ القدم، فقد جعل ابن خلدون من العصبية عاملا رئيسا في تماسك الأمم ودوام دولتها. أما اليوم، فيتهمنا العالم أجمع بضيق الأفق وسرعة الغضب، حتى شاع بين الناس أن العربي من ذوي الدم "الحامي"، في الوقت الذي يتباهى فيه الإنجليز مثلا بأن دماءهم "باردة" في المقابل!
لسنا معنيين الآن بمناقشة هذه الآراء، ولكننا لا ننكر أيضا أن الطبع الغالب على الكثيرين منا هو سرعة الغضب وصعوبة الصفح. مع أن أجدادنا الذين حملوا راية الإسلام إلى أصقاع الأرض، كانوا أعظم الناس تسامحا ولين جانب. فما السبب يا ترى؟
لقد ترعرع معظمنا على الشعور بالذنب عند اقترافه في حق الآخرين، إذ يسعى الطفل عندما يعاني من مقاطعة والديه أو عقابهما له، إلى استجداء عطفهما والحصول على العفو الذي يخلصه من عقدة الذنب، ولكن تعنت الكثير من الأهل يجعل من الصفح أمرا بعيد المنال، ويولد لدى الطفل شعورا بضرورة طأطأة الرأس والتذلل لنيل هذا الصفح، والذي قد لا يتناسب مع حجم الذنب الذي اقترفه الطفل، مما ينمي عند الطفل الرغبة في الانتقام في المستقبل.
إن هذا الشعور السلبي قد يتضاعف عندما يصغر الذنب في عين الطفل أمام تعنت والديه غير المبرر، إذ لا بد وأن يُفسر بالنسبة له على أنه مجرد رغبة في التسلط وفرض الهيمنة على كيانه الصغير، ومن قبل أشخاص كبار لا يؤثر عليهم ذنبه بالكثير من الأضرار. فهناك فرق كبير بين من نطلب منه الصفح لمجرد طيب أخلاقه وهو قادر على الانتقام، وبين من نتذلل له مع علمنا بأننا نقدم له خدمة بذلك أكثر من خدمة الصفح التي يجود بها علينا، وذلك لأننا نشبع فيه رغبة التسلط والاستعلاء.
إن الصفح الذي نسعى لتعليمه لأطفالنا يجب أن يكون فرصة لتعليمه فضيلة الاعتراف بالخطأ، ومواجهة النفس عندما تذنب، وطلب الصفح من الذين أخطأ بحقهم. ولكن المؤسف في الأمر أن الطفل يتعلم بدلا من ذلك أن يصبح أكثر تعنتا، وأشد غلظة، إذ يتحول الذنب لديه إلى جريمة لا تغتفر، وتعتاد نفسه على الغلظة وعدم بذل الصفح إلا بعد إرضاء هوى النفس بإذلال الآخرين. وهنا تبدأ المشكلة.
المسامحة الحقيقية يا أحبتي هي تلك التي تجلب لكلا الطرفين مشاعر الامتنان دون ذل لأحد، وهي التي تساعد المذنب على التخلص من مشاعر الذنب وعقدة الخطأ دون أن ترسخ في نفسه مشاعر الحقد والحسد، وتدفعه للبحث عن خصال الخير في نفسه وتجاهل أخطائه القديمة بدلا من استجرارها والدوران حولها في حلقة مفرغة.
وأما الاستمرار على هذا النهج فلا بد وأن يولد لدى الطفل الرغبة في الانتقام، وذلك في حق والديه أولا، ثم في حق كل من يسيء إليه ثانيا، وحتى في حق المجتمع عامة عندما تجري الأمور على عكس ما يشتهي في الكبر.
ولهذا فإننا كثيرا ما نسمع اليوم عبارات من قبيل: "والله لن أسامحه حتى لو قبّل يدي"، أو مثل "سوف لن أنسى ما فعله بي ما حييت"، ولعل من السهل عليك أخي القارئ أن تفسر هذا الموقف على أنه يعود ببساطة إلى رغبة هذا الشخص في الانتقام من ذلك الذي أساء في حقه، وأنه يعتقد بأن مجرد تعنته وعدم صفحه عنه سيؤدي إلى استرداد حقه منه أو على الأقل سيُشعر الآخر بالضيق والألم اللذين يستحقهما. والمشلكة هنا أننا كثيرا ما نغفل عن حقيقة كوننا أول المتضررين من هذا التعنت، فالشخص المتسامح هو المستفيد الأول من تسامحه وصفحه، أما المصر على حقده وغيظه فلعله الوحيد الذي يعاني من ذكريات الذنب الذي يصر على الاحتفاظ بآلامه وجراحه.
إن التربية السيئة التي تلقاها معظمنا في الصغر، والتي زرعت في نفوسنا الربط بين الصفح وبين شعور المذنب بالارتياح، هي المسئول الأول عن هذا التعنت، ولعل تراكم الشعور بالظلم من قبل الآخرين يولد رغبة جامحة لدى الفرد في الرغبة بالانتقام ممن هم أقل منه شأنا وقدرة، وهذا في رأيي يفسر الكثير من مظاهر العنف المنزلي، إذ نجد الرجل غالبا ما يشبع رغبته في التسلط وإثبات الذات عبر قهره المستمر لزوجته وأولاده، وكأنه بذلك يحاول الانتقام من رئيسه في العمل، أو من شرطي المرور الذي ألزمه بدفع غرامة مالية جائرة دون أن يملك ردها.
إن الصفح طبع ليس بالسهل تعلمه وغرسه في النفوس، بل يجب علينا إذا أردنا لمجتمعاتنا أن تعيد بناء نفسها أن نعيد تقديمه لأطفالنا على الوجه الصحيح، وأن نعمل جهدنا لتعويدهم على أن فضيلة الصفح أعظم من رذيلة إذلال الآخرين، وأن إشباع رغبة النفس بالعزة والكرامة يكون بأخذ مبادرة التسامح والعفو، بدلا من التعنت والجمود عند أخطاء الآخرين. وهو أمر ليس بالسهل على أي حال، فقديما قالوا: العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم. وليكن رسول الله (ص) قدوتنا عندما رد على قريش التي ظلمته وأخرجته من وطنه وخذلته وألّبت عليه قبائل العرب في قولهم أخ كريم وابن أخ كريم: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
ولا ننسى تتمة القصة التي تقول أنهم قد دخلوا بذلك دين الإسلام أفواجا..فنزلت سورة النصر.. وأصبح عليه الصلاة والسلام سيد العرب، فما أحوجنا لهذه القيم.