تركة جدي (3)
جعفر عباس
لم أغضب لأن جدي لأبي قايض أراض زراعية شاسعة بحمير.. نعم فكلما أعجب بحمار ساوم صاحبه: أعطيك ربع فدان مقابل الحمار.. وهكذا صار يملك قطيعا من الحمير «آخر موديل«، ولم يترك لورثته سوى قطعة أرض بيضاء غير صالحة للزراعة من فرط تشبعها بالأملاح.. اعتقد ان جدي عاش هانئ البال مستمتعا بحميره المزودة بسروج جميلة الصنع..
كان ذلك زمان الاستقرار المادي والنفسي.. كل شيء يسير على حاله لعشرات السنين.. ليس هناك دولار يصعد ويهبط فتنفجر معه الشرايين وتتصلب الأوردة، أو أسهم تنهار فتنهار معها الأعصاب وتصاب البيوت بالخراب، عندما يصب رب البيت الذي أفلس بسبب الأسهم جام غضبه على أم العيال: أنت امرأة شؤم.. روحي بيت أهلك وعساكي ما ترُدين، لأني ما أبي (أريد) أشوف خلقتك.. خلينا نجيبها من قاصرها.. روحي انت طالق ولعلمك لا ترفعين علي دعوى نفقة لأنك ما راح تحصلين شيء يا غراب البين.. جدي كان سعيدا بحميره التي كانت السرعة القصوى لأعلاها لياقة بدنية عشرة كيلومترات في الساعة وأنا أركب سيارة قوة 20 ألف حمار كل شيء فيها يعمل اتوماتيكيا ولست سعيدا بها لأن العيال يريدون مني ان اشتري بي ام دبليو او لكزس.. وأعرف أنه لو فقدت قواي العقلية واشتريت إحدى هاتين السيارتين فإن العيال سيبدأون في الطنطنة: بابا ممكن نشتري لامبورغيني أو فيراري؟ هذا لا يختلف في تقديري عن سؤالي: بابا ممكن تتزوج نانسي عجرم أو هيفاء وهبي؟ يا عيال كل فولة ولها كيال، ومن فضل الله انه ألهم اليابانيين والكوريين ان يصنعوا سيارات يستطيع أمثالي شراءها.. ثم أقول لهم: عندما أحرزت نتيجة طيبة عند الانتقال من الصف الثالث الى الرابع الابتدائي.... لا يتركونني أكمل بل يصيحون بصوت واحد: حافظين الموال.. خالك اعطاك حمار تذهب به الى المدرسة وصرت من الطبقة الارستقراطية مثل أولاد العمدة وشيخ البلد. والذنب ليس ذنبنا وحدنا في أننا صرنا في حالة هلع وهرولة وتشتت ذهن، ولا نقنع بما لدينا.. حتى من يعيشون في القرى النائية باتوا يتأثرون بمؤشر داو جونز ومجريات الأمور في بورصة هونغ كونغ.. عندما كنا صغارا كانت هناك قواعد متوارثة تحكم سلوك الفرد والجماعة وكان لكل بلدة وقرية منظومة من «اللوائح« غير المكتوبة يلتزم بها الجميع.. كنا إذا سمعنا ونحن صبية بأن شخصا من قرية أخرى تحرش لفظيا بفتاة من حينا، نتربص له ونرجمه بالحجارة وننهال عليه بالسباب حتى يتوارى عن الأنظار بعد افتضاح أمره.. واليوم لا يخاف الناس على بناتهم إلا من أولاد الجيران.. يلجأ اليك صديق طالبا سلفة - مثلا - لأنه يريد عرض زوجته الحامل على طبيب خاص، وتكون قادرا على تسليفه ولكنك تتساءل في سرك: طيب لو مات قبل ان يسدد السلفة؟ هل أطالبه بمستند يقر فيه باستلاف المال مني؟ عيب! لا حل سوى ان اعتذر له متعللا بعدم امتلاكي للمبلغ المطلوب.. والشاهد هو اننا نملك أشياء لم يكن أجدادنا يحلمون بها ولكننا لا نعرف معشار السعادة التي كانوا يجدونها في القليل الذي كان عندهم.