ما كنت أحسب أنني سأسمع حديثا مثل ذلك وما كنت أعرف أن بيننا من هم بتلك السطحية
والسذاجة ,
لقد كنت معه إذ مال بلسانه على أحبابي رجال الهيئة , وكنت أظنه بادئ الأمر جاهلاً فلما أن علمت بجديته وأنه يسخر منهم ويلمزهم وأنه ما قال ذلك إلا صدقاً من عند نفسه
قلت له مهلا
وسقت له ما سقت من دلائل على صدق دروب الهيئة وأنها ما كانت يوما تبحث عن الضرر وما كانت لتتعقب سنين الزينة ومرحلة اليفاع وسطوة الشباب إلا لعلمها بأنه عمر محفوف بالمخاطر وأنها فترة تغمرها الشهوات وتذوب فيها المهج , لكنه متشبث برأيه لا يرجع تجره الشهوة والطيش جراً تلح عليه أن يرفض وأن يقبل تلاعب الشيطان به وأن يرى العذب رنقاً
.......
فخرجت من مجلس يجمعنا
وحلقت كالطائر بلا سرب فوق أجواء المدينة فرأيت أركاناً مزدحمة ودهاليز مظلمة ومستدقات بعيدة وأجساد متقاربة وممرات متباعدة وأختلط أسود العباءة بأبيض الثوب
فكان ليلاً بنهار
فقلت لأجنحتي أنزليني
ولو قليلاً أنزليني
قالت حسناً
وساقتني نحو أنوار المدينة بل نحو نور من مجمع في المدينة
فقلت رويدك
أمهليني لأدقق بين كنز ودفينة .....
واحمليني حمل طفل بيدي وارفعي سقف المجمع
وأريني
ماذا يحوي
ماذا يجري
ذاك
سوق مزدحم
.............
وهناك الفتيان والفتيات يسيرون في طرقات المجمع
وهناك ثم هناك عند العتبات شيطان يجلس على كرسيه يقود جماعات
شياطين منتشرة في كل مكان
وهالات نارية ليس لها من عمل سوى الوسوسة والوشوشة
والآذان الفتية الغضة سامعة مجيبة مقبلة على بيت الشهوات
وهناك عند الطبق الثاني في الصحن الأيمن عند السلم المتحرك
فتى مهندم ساقه الشيطان
يتلصص خلف جدار اللذات يجري في أعقاب فتاة ضيقة الملبس غاب عنها الخطر فرصت الحزام على حقوها فتنة فأخذ يلحظها بنظرة خراقة فتلتأه بمثلها حراقة
فيكون الإعجاب ولمس الأيادي اللينة المثيرة والوعد إن كان للوعد في تواصلهم حقيقة حتى إذا ركبهم الهوى وأتاهم ظل الشيطان وظنوا أنهم في جنان الحب الثاوية
وتمادوا مابين لمسة وهمسة وحبال خفية مخفية
لاح بينهم وفي سماءهم نور الحق الذي تحيطه ألوان الطيف الخلابة أولئك رجال يمشون الهوينى فيهم علامات الصالحين وفي أنفسهم آثار جلية من حدائق الرحمن فداسوا بأرجلهم على أعناق الشياطين تراهم يقتربون منهم وممن هو مثلهم
يقدمون إليهم بالنصح وأنه ما هكذا يكون الحب وأن هذا طريق للشيطان وسبيل لا شك للتعاسة والشقاء فلا تقربوه
ليخرجوهم من شباك العنكبوت الشيطانية تلك التي تلقيهم في شرور و آثام ولينقذوهم من عبث الشباب ومن خسران الأعمار
ويذهب كل منهم في طريقه وفي نفسه أن تلك عثرة وكبوة وزلة من الشيطان
فأنزل قليلا أريد أن أقبل تلك الجباه التي خافت على مستقبل الشباب والشابات
لكن الريح تأخذني إلى مكان بعيد هناك في مدينة أخرى فأرى زجاجة تلمع
في سيارة مكفهرة تمر بين الرباع مرور الضباع
وعند زاوية تتوقف فينزل صاحبها فيتل زجاجة من عنقها ويمدها لمسكين يهوى الخمر وكأس الراح وإذا بنفير تستيقظ له الأذن النائمة
وأسود تطوقهم من كل مكان وحين يراهم بائع الخمر يقعي على ذنبه ويلف رأسه مظهراً الندامة وأنه مسكين يرجوهم أن يتركوه وما هم بفاعلين
لأنهم يعلمون حجم ذنبه وأنه مفسد فوق فساد المفسدين ,
إنهم حقيقة مثل المطر حين ينهمر على كل أرض فلا يترك خوبة ألا وسقاها وأزال عنها الجفاف وأتاها بالخضير .
فأميل برأسي عنهم لكنه يرجع إليهم غصباً
فمن منا يطيق فراق تلك الوجوه النيرة
وتسير بي أجنحتي قرب سور من طين لونه أسود ونوافذه من حديد شكلته الطلاسم
والباب المعوج عليه كلمة سر
هي أحرف مقطعة لو ضممتها لوجدتها شمهروش
فأتعجب منها ومن صوت قادم من داخل المنزل
لحظات وإذا برجل ضخم مقيد خلفه رجال يسوقونه
في أيديهم مبعثرات من أعمال الشياطين
فيلتفت إليهم الساحر البغثر طالبا الرحمة وفي عينه حمرة البكاء لكنه ما رحم أسر كثيرة فرقها وأمرضها
فكيف يرحمونه
فأرفرف بأجنحتي فرحا فأغادرهم وعين الله ترعاهم
فأجهد جهدي وتسير بي أجنحتي من مدينة إلى مدينة
تعجل نحو مركز كالدر بل كخلية النحل بل أطهر وأنقى من كل جوهر ولب
تلك هي صدور رجال الحب والأخلاق والطهر
هناك حيث مركزهم
فتاة صغيرة غدر بها ضبع لئيم
جرها بكلام الحب وأن وعده صادق وأنه محب ولهان
فيهونون عليها الأمر وأنه لا داعي للحزن فما مضى قد مضى وما جرى قد كان فلا تُذهبي نفسك حسرات وأن الضبع الذي كاد أن يغدر بك هو الآن بين أفكاك الأسود
لكنهم عليه أرحم من ناب الأسد
فهل رأيتم مثل ذلك في أي بلد
لا والله ما رأينا
ما رأينا من يحرص على الأعراض ويصونها ويحميها ومن يزرع زرع الأخلاق ومن يحصد مثل تلك الفضائل ومن يصد الشيطان
ما رأينا مثل تلك الأسود شجاعة
تلك التي تنزف حزناً وتفزع ألماً فتهرع خوفاً على كل فتى وفتاة
ولعمر الله إنهم فينا مثل الشمس علينا حين البزوغ
هم إن جد الجد حماة الأخلاق
ولعمر الله أن رأس شيخ فيهم يستحق ألف بل مليون قبلة
فهل سنوفيهم حقهم
لا والله
بل حقهم عند الله الذي لن يضيع أجرهم
فسيروا يا هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعين الله ترعاكم
سيروا
فلن يضركم ولن يضرنا إن شذ أحد منكم أو منا
مما راق لي