الطيبة مثل أي مكان في الدنيا, لها أشياؤها التي تفخر بها. قد لا تبدو هذه الأشياء خطيرة, أو ذات أهمية بالنسبة لأماكن أخرى, لكنها بالنسبة للطيبة جزء من الملامح التي تميزها عن غيرها من الضيع والقرى. وهذه الأشياء تكوَّنت بفعل الزمن, وبفعل الطبيعة القاسية, كما لم يحصل في أماكن أخرى. فإذا كانت الأصوات العالية تميز سكان عدد كبير من القرى, حتى لتبدو أصوات الفلاحين عالية الجرْس صلبة المخارج, وبعض الأحيان سريعة, وتتخللها مجموعة من الحِكَم والأمثال, كما هي العادة لدى الكثير من الفلاحين في أنحاء عديدة من العالم, نظرًا للعادة وللمسافات التي تفصل الناس بعضهم عن بعض في الحقول, أو حين يضطرون للمناداة على الحيوانات الضالة, أو على تلك التي تذهب بمزاجها الغريب إلى أماكن بعيدة أو مجهولة, أو ربما للبعد الذي يفصل البيوت بعضها عن بعض, وما يحيط بها من الحواكير والبساتين الصغيرة التي تزرع فيها أنواع عديدة من الخضراوات - فإن هذه الأسباب, وغيرها كثير, خلقت طبيعة معينة, وجعلت الناس في الطيبة يتكلمون بطريقة خاصة, حتى ليظن مَن يسمع الحديث ولا يفهم طبيعة الناس أو علاقاتهم, أنَّهم يتعاركون, أو أن الخلاف بينهم وصل إلى درجة من الحدة, لا بدَّ أن تعقبه أمور أخرى!
لو اقتصر الأمر في الطيبة على ذلك لما عني شيئًا, خاصة بالنسبة للفلاحين أو الذين يعرفون طبائعهم. لكن إذا ترافق مع ذلك النسق الخاص من الحديث الذي تعوّده أهل الطيبة, حيث يلجأون في أكثر الأحيان إلى الاستطراد والتذكر, ويسرفون في رواية القصص والتاريخ, فإنه لولا هذه الصفة لما ظهرت تلك الطبيعة الخاصة, ولما ظهرت تلك الخشية التي تميّز البشر في ذلك المكان, وما يحيط به من قرًى وضياع, وقد تصل إلى المدينة, أو بعض أطرافها أيضًا!
كان أهل الطيبة يعرفون كيف يديرون الحديث بتلك الطريقة العجيبة التي تجعل الأمور ذات أهمية شديدة. وهذه الميزة التي يتوارثها الأبناء عن الآباء, تجعلهم في نظر الكثيرين نوعًا خاصًّا من الناس, وتجعلهم أكثر من ذلك قادرين على التأثير في الآخرين, وربما إقناعهم. ولا يمكن تفسير هذا الأمر على أنه ضرب من الاحتيال أو التملُّق, كما لا يمكن أن يُعَدّ دليلاً على نزعة شريرة, ولكنها العادة بتكرارها الدائم, ثم تلك الليالي الطويلة, ليالى السمر والأحاديث السائبة, ثم التحديات, وما تجرّ إليه, وليالى الصيف أو الشتاء, في البيادر أو إلى جانب النبع, وحول المواقد. لقد كانت الأحاديث تجري سريعة شجيّة وأقرب ما تكون إلى الحلم. وكان الذين لا يحسنون المشاركة في أحاديث من هذا النوع, لا يلبثون أن يصبحوا بشرًا مختلفين إذا وُجدوا بين أناس آخرين, عندئذ يبدأون بإعادة ما سمعوا ويردّدون القصص التي رويت في الطيبة, ثم يضيفون إليها ما شاؤوا من الخيال, فتبدو وكأنَّها أقرب إلى الذكاء والمهارة, فتثير من الإعجاب بمقدار ما تثير من الحسد.
وابن الطيبة, كبيرًا كان أم صغيرًا, يعرف كيف يسمع, وإن كان الصغار, بشكل خاص, أكثر قدرة على الإصغاء, ولربما ردَّدوا فيما بينهم أو في أنفسهم, ما سمعوا مرات كثيرة, حتى تترسخ في الذاكرة الأشياء فلا تضيع ولا تنسى, يضاف إليها أفكار وأمثال تَرِد عفو اللحظة وتمليها الظروف
الطارئة التي يواجهونها. إنَّهم يلجأون إلى ذلك كله لكي تبدو أحاديثهم أكثر تشويقًا وأكثر أهمية!
والطيبة التي تعتمد على المطر والزراعة, وعلى ذلك الشريط الضيق من الأرض الذي ترويه العين, تحسّ في أعماقها خوفًا دائمًا أن تأتي سنوات المُحْل. وإذا كانت تستعد لذلك بحرص شديد, بتربية بقرة أو اثنتين في كل بيت, وبتربية عدد من رؤوس الغنم, فإنَّها في سنوات المحل لا تستطيع أن تطعم أبناءها, ولذلك تسرف فيما تعطي للرعاة, وتحاول أن تتخلص من الدواب الباقية بذبحها أو بيعها.
وبرغم أن عدد الرعاة في الطيبة أقل بكثير من القرى الأخرى, فإنَّ رُعاتها من البراعة بحيث يحسدهم الكثيرون, فالراعي الذي يسرح بغنم عشرة بيوت, ويعرف كيف يتصرف في كل الفصول, وإلى أين يذهب- هذا الراعي, برغم غيابه الطويل في الفلاة, يظهر فجأة في سنوات المحل, ويمتلك دالّة على أصحاب الغنم السابقين, بحيث ينام ويقوم في أي بيت يريد دون شعور بالحرج أو التردُّد. أمَّا المزايا الخفية التي يمتلكها الرعاة ولا تظهر للناس في المواسم الجيدة فلا تلبث أن تظهر في سنوات القحط. فهم يرابطون في مداخل القرية, ويتحوّل قسم منهم إلى الصيد, لكن العادات التي اكتسبوها في الرعي لا تفارقهم. وأهل الطيبة الذين يمتازون بقدرة خارقة على الحديث, يدركون أن الرعاة فقدوا هذه الميزة لكثرة ما عاشوا مع الحيوانات في البراري, لكنهم يعرفون كيف يستطيع هؤلاء أن يتجاوزوا الصمت بتلك الأغاني العجيبة التي يردّدونها في الفلاة, ويعرفون أيضًا كيف يستعملون تلك الآلات الخشبية, والتي لا يحسن استعمالها غيرهم, في مواسم الأعراس والحصاد, وربما في حالات الحزن أيضًا.
بهذه الطريقة, وبمعرفة الأماكن التي تعيش فيها الحيوانات, يصبح الرعاة في مواسم الجفاف أُناسًا لا غنى عنهم, لكنهم في أغلب الأحيان لا يتقنون الصيد, وليست بينهم وبين الصيادين مودة. فهم لا يتخلون عن الغناء أو عن تلك الآلات الشيطانية, كما يحبّ المسنون أن يسمّوها, ويحتالون كثيرًا من أجل إبداء براعتهم في كل الأوقات, خاصة إذا تجمع الناس, وكانت هناك ضرورة من نوع ما!
الطيبة بداية الصحراء. من ناحية الشرق البساتين والنبع والسوق بعد ذلك, وعند الأفق, تبدأ سلسلة الجبال. ومن ناحية الشمال والغرب تمتد سهول فسيحة, يتخلّلها بين مسافة وأخرى بعض الهضاب. وهذه السهول تزرع بأنواع كثيرة من الحبوب. كانت تزرع بالحنطة والشعير والكرسنة والبرسيم وبعض أصناف البقول, وفي الأماكن القريبة من البلدة ترتفع مساكب الخضرة, قريبًا من الأشجار المثمرة. أما من ناحية الجنوب فكانت الأرض تشحب تدريجيّا, وتخالطها الحجارة الكلسية, وتبدأ تُقفِر ذراعًا بعد آخر حتى تتحول في بداية الأفق إلى كثبان رملية, وبعد ذلك تبدأ الصحراء.
في المواسم الجيدة تخضرّ الطيبة وتعبق من كل جهاتها, وتمتلئ بالورد والنباتات العجيبة الألوان والأشكال في بداية الربيع. حتى الجهة الجنوبية التي تبدو في أواخر الصيف متجهمة قاسية, لا يعرف الإنسان ولا يستطيع أن يفسر كيف كانت قادرة على أن تقذف من جوفها كل هذه الكنوز, وكيف كانت تشد أهل الطيبة في بداية الربيع لكي يذهبوا أفواجًا لالتقاط الثمار العجيبة المخبوءة في بطن الأرض, وما يخالط ذلك المهرجان من الذكريات عن أيام كانت فيها الحياة أكثر روعة وخصبًا. إن هذه البلدة تتصف بمزايا وصفات ليست متاحة لكثير من القرى المجاورة. حتى الرعاة الأغراب الذين كانوا يحلمون بالوصول إلى المراعي الخصبة, لا يجرؤون على الاقتراب كثيرًا من مراعي الطيبة, ولا يتجاوزون حدًّا معينًا, لأنهم يعرفون طباع أهل الطيبة وما يتّصفون به من حدة, وما قد يرتكبونه من حماقات إن اعتدى غريب على رزقهم أو حياتهم.
هذه الأمور يعرفها ويتصف بها كل من عاش في الطيبة, ويعرفها أيضًا الذين عاشروا أهلها. وإذا كانت بعض القرى قادرة على أن تقذف من جوفها أبناء كثيرين, وترميهم في أنحاء الأرض كلها, وتفقد بعد ذلك كل صلة بهم, فإنَّ الطيبة تختلف كثيرًا, لأنها تولّد في نفوس أبنائها حنينًا من نوع لا ينسى. وحتى الذين سافروا وابتعدوا كثيرًا, كانوا يردّدون دون انقطاع اسم الطيبة, ويحنون إلى أيامها الماضية, ويتمنون لو عادوا إليها ذات يوم ليعيشوا ما تبقَّى لهم من العمر. والذين لا يذهب بهم التفكير والخيال هذا المذهب, كانوا يفكّرون في العودة إليها بين فترة وأخرى, وهناك يقضون أيامًا جميلة, ويتذكّرون كل ما حصل في سنوات سابقة, ويمرون على كل البيوت, ويجلسون في مقهى السوق ومقهى النبع, ويعبّون الهواء بقوة وشهوة لعله يمنحهم قوة تمكّنهم من مواجهة الأيام المقبلة والاستمرار في الحياة الجديدة التي بدأوا يحيونها في أماكن أخرى!
وإذا كان الناس يفضلون, في بعض الأوقات, تذكّر الأيام الجميلة من الماضي, فإنَّ الأيام القاسية يصبح لها جمال من نوع خاص. حتى الصعوبات التي عاشوها تتحول في الذاكرة إلى بطولة غامضة, ولا يصدقون أنهم احتملوا ذلك كله واستمروا بعد ذلك!
هذا الوفاء الذي يكنّه أهل الطيبة لبلدتهم لا يقتصر على شيء دون غيره, ولا يقتصر على المقيمين وحدهم, فالذين سافروا طلبًا للرزق أو الدراسة, وعاشوا في أماكن بعيدة, لا يكتفون بأن يرسلوا الطحين والسكر والرسائل وبعض الحاجات الأخرى إلى البلدة. إنهم يأتون لقضاء وقت غير قصير في الطيبة أيضًا, خاصة بعد أن يعجزوا عن إقناع أقربائهم بالسفر إليهم.
صحيح أن هذه الفترات التي يقضونها في الطيبة تسبّب لهم ألمًا عميقًا, وتولد في النفوس أحزانًا لا يعرفون كيف يكتمونها, خاصة حين يرون المياه وهي تشحّ وتكاد تنقطع من النبع, ويرون المجرى وقد جفَّ, ثم يتملكهم شعور بالاختناق حين يسمعون أصوات الفؤوس وهي تهوي على الأشجار الجافة. فإذا أضيفت إلى ذلك أخبار الذين رحلوا وغيَّبتهم الأرض من الأصدقاء والأقرباء, الصغار والكبار, فإنَّ الحزن يتحوّل إلى حالة عصبية, ويأخذ الحديث مجرى جديدًا. يبدأ القادمون, برغم صغر سنهم, يلومون الكبار, ويوجهون لهم كلمات التقريع:
- قلنا لكم مئات المرات: هذه الأرض لا تطعم حتى الجرذان, وأنتم, هنا, تتشبثون بها, وكأنَّها الجنة. اتركوها, ارحلوا إلى المدينة, هناك يمكن أن تجدوا حياة أفضل من هذه الحياة التي تعيشونها ألف مرة!
وحين يصمت المقيمون, خاصة من المسنّين, ويتطلّعون بحزن إلى وجوه الذين يتكلمون, يتراءى لهم, للحظات, أنهم لم يروا هذه الوجوه, ولم يعرفوها من قبل. ويتراءى لهم في لحظات أخرى أن الكلمات التي يسمعونها قالها أناس غيرهم, أو أن المدينة أفسدتهم تمامًا وجعلتهم يتكلمون مثل هذا الكلام. وتمتد في أذهان المسنين صور لا نهاية لها, صور الطيبة في كل الفترات, حين كان العشب ينبت على الصخور وعلى سطوح المنازل, وحين كانت الينابيع تتفجر من كل مكان, كانوا يتذكرون ذلك ويعبّون أنفاسًا عميقة وكأنَّهم يتنفسون رائحة الخصوبة تتولد من كل الكائنات, ليس من البشر وحدهم, وإنما أيضًا من الحيوانات والجماد. يتذكرون كل شيء, ويتذكرون أكثر مذاق الأطعمة التي كانوا يأكلونها فيتحرّك اللعاب في أفواههم!
وبرغم أن الأبناء الذين هجروا الطيبة منذ وقت طويل, واستقرّوا في المدينة البعيدة, لا يعنون ما يقولونه تمامًا, أو لا يقصدون إليه, فإنَّ تلك
الصعوبات التي كثيرًا ما تتكرر, تحملهم على أن يقولوا كل شيء, وتحملهم أكثر على أن يفكروا بهذه الطريقة. ومع ذلك, وبالرغم منه, فإنَّ هؤلاء في مواطنهم الجديدة لا يكفّون عن ذكر الطيبة, والحديث عن مزايا موهومة لا تتمتع بها أي بلدة أخرى في المنطقة كلها. كان هؤلاء الأبناء لا يكتفون بالحديث, فإنَّ تعلقهم بالطيبة يدفعهم في حالات كثيرة, وفي لحظات الشوق المذكِّرة, لأن يفعلوا أشياء لا حصر لها ولا تخطر ببال: كانوا يقيمون أفراحهم في الطيبة, يجدّدون هذه الأفراح في الطيبة, يبعثون أبناءهم خلال فصول الصيف, لكي يعيشوا مثلما عاشوا حين كانوا صغارًا. وحين تأخذهم النشوة يدعون أصدقاءهم لقضاء بضعة أيام في هذه البقعة الرائعة: (في الطيبة السماء قريبة, شديدة الصفاء, والليالي هناك مليئة بنشوة لا تجدونها في أي مكان آخر من هذا العالم. أما الفواكه, أما الألبان, كالجبنة حين تكون طازجة, والزبدة حين تقطف, والدجاج والخراف الصغيرة وهي تشوى على نار الحطب... أما هذه الأشياء وأخرى وغيرها في الطيبة, فلا يمكن أن يكون لها مثيل. ثم هناك الصيد. الصيد وفير, فالحَجَل والأرانب, وحتى الحيوانات المتوحشة التي انقرضت في معظم البقاع, يمكن أن توجد في بعض الأودية العميقة المحيطة بالطيبة. والينابيع الغزيرة, إن الينابيع, إذا كانت أمطار تلك السنة وفيرة, تتفجّر من شقوق الأرض, وتتدفّق من تحت كل صخرة. ومياه هذه الينابيع باردة نقية, حتى إن الإنسان لا يشبع حين يشرب من تلك المياه).
هكذا كانت الأحاديث تجري. أما إذا جاءت فاكهة الطيبة إلى المدينة, في سلال صغيرة, فكان هؤلاء الأبناء لا يملّون أبدًا من تقليبها والنظر إليها. كانوا يفضلون أن يقدّموها إلى ضيوفهم, وأن يتحدثوا عنها. أما إذا جرى الحديث عن أجبان المدينة وألبانها, فكثيرًا ما كانت وجوه هؤلاء الأبناء تتغير, تمرق مثل ومضات خاطفة مظاهر القرف والذكرى في وقت واحد, ويتصورون للحظات أنهم غير قادرين على أن يتذوّقوا شيئًا من الطعام غير ذاك الذي يأتي من الطيبة!
أشياء كثيرة تتولّد في النفوس, في نفوس المقيمين والراحلين, وهذه الأشياء من التداخل والتعقيد بحيث لا يستطيع أحد أن يفسرها.
يتبع،،،