أم تبرعت بكليتها لابنتها وزوج يهدي كليته لزوجته وشاب ضحى لإسعاد طفلة
التبرع بالأعضاء.. إنقاذ للنفس البشرية.. وعلماء أجازوه في الوفاة الدماغية
دعاء بهاء الدين– ريم سليمان– سبق– جدة: أثار اقتراح عضو مجلس الشورى الدكتور عيسى الغيث بإدراج لفظ "متبرع بالأعضاء" في رخصة القيادة الكثير من ردود الأفعال، وفتح ملف التبرع بالأعضاء من جديد، واستوقفنا وقتها الحديث الشريف الذي يقول "مَن نَفَّس عن مؤمن كُربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كُربة من كُرب يوم القيامة".
وبالرغم من عدم وجود أي تعارض بين الطب والدين في هذا الشأن، حيث اعتبرت الوفاة الدماغية بمثابة وفاة شرعية، وهناك فتاوي شرعية واضحة أجازت التبرع بالأعضاء أثناء الحياة أو بعد الوفاة، وأهمها "فتوى هيئة كبار العلماء رقم 99 بتاريخ 1402/11/16 ه، فإنه مازال هناك العديد من فئات المجتمع على جهل بهذا الشأن، وترفض فكرة التبرع بالأعضاء.
"سبق" تفتح الملف في محاولة لتوضيح فكرة إنسانية تتماشى مع القيم الإسلامية والأخلاقية، وثوابها كبير عند الله تعالى.
زهرة عمري
تحدثت إحدى الأمهات، في الثلاثينيات من عمرها، والتي تبرعت لابنتها بالكلى قائلة: تجرعت ابنتي "11 عاماً" مرارة الألم في صغرها، وأصيبت بالفشل الكلوي، معبرة عن شعورها بالحزن وقالت: هجرني النوم وأنا أجد ابنتي زهرة عمري تتعرض لغسيل الكلى ويرقد جسمها النحيل طريح الفراش، فتعجز عن اللعب والذهاب إلى المدرسة، فكم من ليالٍ رافقتني دموعي، ألتمس خيوط الليل وسط صمت الكون لأحتضنها وأستمع لدقات قلبها الرقيقة وألمس يدها البريئة.
وتابعت: عندما علمت من الطبيب أن التبرع بالكلى سينهي آلامها لم أتردد لحظة واحدة في التبرع لها بكليتي، وبادرت بإجراء التحاليل والفحوصات الطبية، وفي يوم العملية اجتاحتني دموعي أثناء صلاتي أن تكلل العملية بنجاح لتسترد ابنتي عافيتها، وبعد إجراء العملية تفتحت عيناي وبادرت الطبيب بالسؤال عن ابنتي وأسعدتني إجابته: إنها بخير والله كتب النجاح لعملية زرع الكلية، وبعد سنتين من إجراء العملية، أحمد ربي أن كتب الحياة لابنتي من جديد، وعادت ابتسامتها لتشرق في دنياي من جديد.
روح في جسدين
وبكل معاني المودة والرحمة بين الزوجين تحدث أحد الأزواج تبرع لزوجته بكلية قائلاً: زوجتي ورفيقة عمري ابتلاها الله بفشل كلوي، في أصعب لحظاتها المرضية لم تقصر في رعايتي، والاهتمام ببيتها، عاصرت معاناة زوجتي النفسية والجسدية في الغسيل الكلوي لعدة سنوات.
وتابع: كنت أشعر بألمها وهي بجانبي فأحتضنها لأخفف عنها آلامها، كانت تخفي دموعها عني، كي لا تزعجني، وكان يغمرني الحزن عندما أشعر بدقات قلبها المتلاهثة تكافح من أجل الحياة، بعد فترة من معاناتها توكلت على الله وقررت التبرع لها بكليتي، فكم أتمنى أن أهبها روحي لتحيا وتظل دائماً الشمعة التي تضيء حياتي، بعد إجراء الفحوصات الطبية ثبت توافق أنسجتنا، وبفضل الله تبرعت لها بالكلية، وانتابني شعور، مزيج من الفرح والبكاء عندما وجدتها تتماثل للشفاء، ونحن حالياً ننعم بصحة جيدة.
ذبول زهرة
ويضرب شاب في الثلاثينيات أروع مثال للإيثار والتضحية في تبرعه بفص كبدي لطفلة، وقال: تأثرت جداً عندما علمت أن طفلة بحاجة لزراعة كبد، انهمرت دموعي وأنا أرى زهرة متفتحة كادت أن تذبل، فما ذنب طفلة الخمس السنوات أن تعاني في مرضها أو تفقد حياتها؟
وتابع: في يوم العملية لم أخبر أسرتي بها، بل آثرت الكتمان حتى لا تشعر أسرتي بالقلق عليَّ، وعقب إجراء العملية شاهدت ابتسامة الطفلة تعلو شفاهها، وأسرتها تحمد الله أن وهب الحياة لابنتهم من جديد، وأبدى استعداده للتبرع بكليته أيضاً إذا احتاجها شخص آخر، فلا جدوى للحياة إذا انغلق الإنسان على ذاته، ولم يمنح الحياة لغيره بإذن الله عز وجل.
طفولة مهدرة
وتنفَّس أب الصعداء عندما أشرقت بسمة طفلته من جديد، بعد معاناتها مع الفشل الكلوي طيلة خمس سنوات، وقال: شعرت بالحزن والأسى وأنا أعيش مأساة فلذة كبدي.
وتابع: علمنا أن هناك متوفى دماغياً يحاول الأطباء إقناع ذويه بالتبرع بكليته لابنتي، مرت الساعات دهراً وأنا أنتظر رأى أهل المتوفى، معرباً عن سعادته عند علمه بموافقتهم، وقال: سجدت شكراً لله عز وجل عندما أخبرني الطبيب بإمكانية التبرع بكلية من المتوفى دماغياً لإنقاذ حياة ابنتي، وشعرنا بالسعادة من جديد تغمر حياتنا.
مفهوم الوفاة الدماغية
رأى مدير المركز السعودي لزراعة الأعضاء الدكتور فيصل شاهين أن تسجيل رغبة الشخص وموقفه من موضوع التبرع بالأعضاء يعتبر إجراءً مهماً يهدف إلى مساعدة مرضى الفشل العضوي، وإبداء الرغبة في التبرع بالأعضاء من عدمه بعد الوفاة، وقال: اقتراح عضو مجلس الشورى الدكتور عيسى الغيث بإدراج "متبرع بالأعضاء" في رخصة القيادة يعد أمراً مهماً، مشيراً إلى أنه تقدم به إلى المركز السعودي لزراعة الأعضاء، ويقوم على متابعته.
وأفاد أن هناك صعوبات واعتراضات تواجه برنامج التبرع بالأعضاء، أهمها عدم وجود وعي مسبق عن مفهوم الوفاة الدماغية، وأنها تعادل الوفاة الشرعية رغم وجود المتوفى دماغياً على جهاز التنفس الصناعي، وقال: الــوفـاة الـدماغية هي حـالـة مـوت كامل الدماغ لا رجعة فيه أبداً، وأنه لا يحتمل وجود أخطاء في معاييره.
وأكد أن العمل على تنشيط برنامج التبرع بالأعضاء وزراعتها سوف يؤتي ثماره بالمملكة، موضحاً أن نسبة كبيرة من أهالي المتوفين دماغياً تصل إلى 92% يوافقون على التبرع بالأعضاء إذا عرفوا أن تلك رغبة المتوفى دماغياً، بينما تنخفض هذه النسبة إلى حوالي 40% إذا لم يعرفوا بذلك، وهذا ما نسعى إليه في زيادة عدد بطاقات التبرع ووضع العبارة على رخصة القيادة وغيرها.
وفاة شرعية
وأضاف شاهين أنه ليس هناك أي إشكالية بخصوص الوفاة الدماغية بين الطب والدين وجميع الأديان، ومن ضمنها الدين الإسلامي، حيث اُعتبرت الوفاة الدماغية بمثابة وفاة شرعية، وأجازت التبرع بالأعضاء من المتوفين دماغياً، وقد اعتمد البرنامج على فتاوى شرعية واضحة أجازت التبرع بالأعضاء أثناء الحياة أو بعد الوفاة ومن أهمها فتوى هيئة كبار العلماء رقم 99 بتاريخ 1402/11/16 هـ، إلا أنه مازال يحتاج المزيد من الدعم من جانب علماء الدين وكبار المشايخ بالمملكة من أجل زيادة الوعي لدى العامة بمفهوم التبرع بالأعضاء على اعتبارها فكرة إنسانية تتماشى مع القيم الإسلامية والأخلاقية، وثوابها كبير عند الله تعالى.
ولفت إلى التعاون المشترك مع جمعية "إيثار" المهتمة بالتبرع بالأعضاء، حيث تقوم بنشر فكرة التبرع بالأعضاء في المجتمع، مما يسهم في علاج مرضى الفشل الكلوي أو العضوي النهائي ويخفف من طول فترة المعاناة والانتظار لإخواننا المرضى، موضحاً أن هناك ضوابط وتنظيمات دقيقة وصارمة استندت على الفتاوى الشرعية وأخلاقيات المهنة ومفاهيم التبرع بالأعضاء، سواء من المتبرعين الأحياء أو المتوفين دماغياً.
وقال: في حالة التبرع من حي لحي فلابد من موافقة المتبرع وعدم وجود شبهة المتاجرة بالأعضاء أو ممارسة أي ضغوط على المتبرع، مشيراً إلى أن اختيار المتبرع الحي يجب أن يتم بعناية فائقة بعد إجراء الفحوصات الطبية والنفسية وضمن الضوابط الأخلاقية، أما بالنسبة للتبرع من المتوفين دماغياً فتسجل استمارات إثبات الوفاة الدماغية ليوقع عليها طبيبان استشاريان، للتأكد من أن جميع الخطوات أجريت حسب البروتوكول، وفي حال الحصول على موافقة الأهل على التبرع يتم نقل الشخص المتوفى إلى غرفة العمليات لاستئصال الأعضاء التي نحتاج إليها وعادة ما تكون "الكليتين، الكبد، القلب، الرئتين، البنكرياس".
زيادة وعي المجتمع
وأفاد المدير الطبي لجمعية "إيثار" دكتور شادي أنيس أن التبرع بالأعضاء يكون من شخص حي أو من متوفى دماغياً، موضحاً أنه يمكن التبرع بأي عضو من المتوفى دماغياً، طالما كان على جهاز التنفس الصناعي (القلب مازال يعمل)، ولفت إلى أنه بعد توقف القلب بفترة بسيطة تصبح الأعضاء غير صالحة للزراعة.
وأبدى أنيس تفاؤله بزيادة وعي المجتمع في موضوع زراعة الأعضاء قائلاً: قمنا في "إيثار" بعمل العديد من الحملات التوعوية العامة في المستشفيات والمراكز التجارية، ولاحظنا أن المجتمع يزداد معرفة بمواضيع الفشل العضوي وزراعة الأعضاء يوماً عن يوم.
وقال: قامت الجمعية بإنشاء قاعدة بيانات للمتبرعين بالأعضاء عقب الوفاة donate.eithar.net، وتقوم فيها بتجميع موافقات التبرع بالأعضاء للإفادة منها، وتعريف المجتمع بأهمية التبرع بالأعضاء، معرباً عن أمله بزيادة عدد المتبرعين، وقال: لدينا في قاعدة البيانات الآن حوالي 1500 متبرع، والعدد في ازدياد.
ضعف التثقيف الشرعي
وعن دور لجنة الشفاعة بجمعية "إيثار" تحدث لـ"سبق" فضيلة الشيخ محمد بن علي البيشي، عضو اللجنة الشرعية بجمعية التبرع بالأعضاء وعضو لجنة الشفاعة الحسنة، قائلاً: هي لجنة تابعة لجمعية خيرية لتنشيط التبرع بالأعضاء (إيثار) بالمنطقة الشرقية، مكونة من أعضاء شرعيين ورجال أعمال ومختصين بالوفاة الدماغية، موضحاً أن هدفها الرئيس هو محاولة إقناع ذوي المتوفين دماغياً بأهمية التبرع بالأعضاء، خاصة أنه صدرت منه موافقة مسبقة بناء على قائمة اللجنة.
ولفت إلى الصعوبات التي تواجه اللجنة قائلاً: من أبرز الصعوبات العملية ضعف التثقيف الشرعي بجواز التبرع بالأعضاء، حتى مع وجود فتاوى شرعية لجهات رسمية، كهيئة كبار العلماء وأشخاص موثوق فيهم كالشيخ عبدالله المطلق الذي تبرع بأعضائه، بالإضافة إلى حيلولة ذوي المتوفين من تمكين المستشفى من أخذ الأعضاء، وأرجع ذلك لجهلهم بالموقف الشرعي أو خشية التشوهات الجسدية الموهومة؛ رغم الموافقة السابقة من الشخص.
فتوى مجمع الفقه
وشجَّع المواطنين على للتبرع بالأعضاء قائلاً: ثبت في الحديث "مَن نَفَّس عن مؤمن كُربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كُربة من كُرب يوم القيامة"، قد لا يدرك الشخص الذي عافاه الله من فشل عضوي أو فقدان بصر النعمة التي يتمتع بها، إلا إذا عاشر أولئك الأشخاص المرضى وتألم لآلامهم، إذ قد ضاقت عليهم سبل الحياة، مؤكداً أن العلاج بعد رحمة الله في التبرع بما يجوز أن يتبرع به من أعضائه في حياته أو بعد الممات.
وأبدى أسفه من وقوف أهل المتوفى دماغياً عائقاً في سبيل تنفيذ وصيته التي تكون رافداً للأجر له ولهم، مرجعاً ذلك للغموض الذي يكتنف موضوع التبرع بالأعضاء، رغم صدور الفتوى من مجمع الفقه الإسلامي المجيزة للتبرع في حال الوفاة الدماغية، والتي تعتبر وفاة حقيقية.
ودعا في ختام حديثه لعقد مؤتمرات فقهية وورش عمل بالمنطقة الشرقية تجمع الفقهاء بالأطباء؛ لطرح المستجدات الطبية وتداول الخبرات بينهما للخروج بنتائج تخدم الواقع الطبي بما يتوافق مع أحكام الشريعة، وأن تُعلَن تلك النتائج عبر وسائل الإعلام ليكون الناس على اطلاع ووعي بالمواقف الشرعية.
ثقافة التبرع بالأعضاء
فيما أفاد الكاتب وعضو جمعية "إيثار" عبدالله العلمي أن تفاعل المجتمع يعد جيداً، ولكنه غير كافٍ ولا تزال عمليات زرع الأعضاء البشرية تعرف نقصاً كبيراً بالمستشفيات السعودية بسبب نقص عدد المتبرعين وتوجس البعض من التبرع بالأعضاء، معرباً عن أمله في أن يزداد هذا التفاعل مع توسع أعمال الجمعية في غرس ثقافة أهمية التبرع بالأعضاء عبر التوعية في المساجد ومراكز الأحياء والإعلام والفعاليات الثقافية للجمعية.
ورأى أن التوعية المجتمعية تكون عن طريق إقامة الفعاليات والحملات التوعوية لنشر ثقافة التبرع بالأعضاء في المجتمع، موضحاً أن الجمعية قامت بعدة أنشطة توعوية ترفيهية وثقافية للتعريف بأمراض الفشل العضوي ونشر ثقافة التبرع بالأعضاء بالتعاون مع مستشفى الملك فهد التخصصي بالدمام والمركز السعودي لزراعة الأعضاء، وأيضاً برعاية سباق الجري الخيري السنوي بالمنطقة الشرقية.
ولفت إلى دور الإعلام المرئي والمقروء، وكذلك وسائل التواصل الاجتماعي في نشر الوعي في مختلف مناطق المملكة.