خطيب الحرم المكي: الإسلام يزداد انتشاراً برغم المؤامرات التي تُحاك ضده ومحاولات الاجتثاث والإقصاء والتشويه
حذّر من المكائد وفتن الشبهات والشهوات التي تستهدف المسلمين
A A A
وكالة الأنباء السعودية (واس) - مكة المكرمة
0
4
1,691
أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور فيصل بن جميل غزاوي، المسلمين بتقوى الله عز وجل في السر والعلن.
وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء)، وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ؛ فطوبى للغرباء، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس)، وفي رواية أخرى (قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير، ومن يعصيهم أكثر ممن يطيعهم)، وقد تحقق ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم تحققاً بيّناً لا خفاء فيه؛ فقد بدأ الإسلام غريباً ثم ظهر وعلا وعز أهله ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ثم عادت غربته مرة أخرى واشتدت وتجلت مظاهرها بوضوح.
وأضاف: هذه الغربة ازدادت شيئاً فشيئاً بسبب دخول فتنة الشبهات والشهوات على الناس؛ حتى استحكمت مكيدة الشيطان وأطاعه أكثر الخلق؛ فعَظُمت الفتن والابتلاءات وتغيرت الأحوال والْتبست الأمور، ولكن مع هذا فطريق الخلاص وسبيل النجاة من الفتن معلوم.
وأردف: هناك حكمة عظيمة لابتلاء المؤمنين بالغربة؛ ألا وهو تمييز الخبيث من الطيب، ومعرفة الصادق من الكاذب، وتبيين المؤمن من المنافق؛ وبذلك يتساقط الأدعياء وأهل الباطل ويثبت أهل الحق؛ مستشهداً بقوله تعالى: {ما كان الله ليذر المؤمنين علىٰ ما أنتم عليه حتىٰ يميز الخبيث من الطيب}، وقال: ذلك أن الغرباء حياتهم طيبة وهم كرماء على الله ينالون تلك البشارة العظيمة التي بشّر بها النبي الكريم عليه الصلاة والسلام بقوله: (فطوبى للغرباء)؛ فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولا يقتضي هذا أنه إذا صار غريباً -أي الإسلام- أن المتمسك به يكون في شر؛ بل هو أسعد الناس؛ كما قال في تمام الحديث: (فطوبى للغرباء) وطوبى من الطيب؛ قال تعالى: (طوبى لهم وحسن مآب)؛ فإنه يكون من جنس السابقين الأولين الذين اتبعوه لما كان غريباً وهم أسعد الناس".
وتابع: عندما يقل الناصر ويعز المعين؛ يأتي دور الغرباء المصلحين الذين يقومون بأمر الله ولا يجدون مؤيداً ولا ظهيراً من الناس بل صدوداً ومعاداة؛ فإنهم -والحالة هذه- يعظم أجرهم وترتفع عند الله منزلتهم، وأن لهؤلاء الغرباء صفات خاصة تدل على تميزهم وخيريتهم وثباتهم على مبدئهم وعلو همتهم وقوة إرادتهم؛ فمن صفاتهم التي تستفاد من الأحاديث الواردة في الغربة تمسّكهم بالسنة عند رغبة الناس عنها وزهدهم فيها، وفي المقابل ترك ما أحدثه الناس من محدثات، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقاً؛ فلغربتهم بين الخلق يعدونهم أهل شذوذ وبدعة؛ لكن يكفيهم شرفاً تمسكهم بدين الله وثباتهم ومضاعفة أجرهم.
وقال "غزاوي": من صفاتهم التي صرحت بها الأحاديث أنهم يصلحون أنفسهم عند فساد الناس، ويلزمون الحق ويعضون عليه بالنواجذ، ويستقيمون على طاعة الله ودينه، كما أنهم كذلك يصلحون ما أفسد الناس من السنة والدين وينهون عن الفساد في الأرض، وهي صفة الغرباء في كل زمان ومكان، ولا يمنعهم عدم قبول الناس للحق من القيام بدورهم قال أويس القرني: "إن قيام المؤمن بأمر الله لم يُبقِ له صديقاً، والله إنا لنأمرهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر فيتخذونا أعداء، ويجدون على ذلك من الفساق أعواناً؛ حتى والله لقد رموني بالعظائم، وايم الله لا يمنعني ذلك أن أقوم لله بالحق".
وأضاف: أوصاف الغرباء المذكورة في الأحاديث تدلنا على أنهم ليسوا أناساً صالحين فحسب؛ بل هم مصلحون أهل بصيرة وغيرة ودعوة وإصلاح، وليسوا ممن عاش لنفسه، واهتم بخاصته، وانعزل عن مخالطة الناس بسبب ما أصابه من اليأس والقنوط والاستسلام للواقع؛ بل هم من الخيرة الذين امتدحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يتحمل أذاهم).
وأردف: يدعون إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى، ويتضح من أحاديث الغربة أنه ينبغي لأهل الحق عند غربة الإسلام أن يقوموا بدورهم في الإصلاح، ويزدادوا نشاطاً في بيان أحكام الإسلام والدعوة إليه ونشر الفضائل ومحاربة الرذائل والدفاع عن السنة والتحذير من البدع والمحدثات، وأن يشمّروا عن ساعد الجد، وأن يستقيموا على الدعوة ويصبروا عليها يرجون ما عند الله من المثوبة، وعليهم أن يستقيموا في أنفسهم على ذلك حتى يكونوا من الصالحين عند فساد الناس ومن المصلحين لما أفسد الناس؛ لما سألت زينب بنت جحش رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنهلك وفينا الصالحون؟) قال: (نعم، إذا كَثُر الخبث)؛ فالمانع والحائل من نزول العذاب وحلول الهلاك هو الإصلاح لا مجرد الصلاح؛ فيجب أن يكون الإنسان صالحاً في نفسه مُصلحاً لغيره.
وأكد إمام وخطيب المسجد الحرام، أن الأمة لا تزال بخير ولله الحمد، وإن تغيرت الأحوال وكثر الاختلاف؛ فهناك مَن هو على الجادة يعمل على نصرة الإسلام ويضحي بالغالي والرخيص من أجل إعلاء كلمة الله، وشعاره "من للإسلام إن لم أكن أنا"، وهو لا ينتظر أن يتحرك غيره لنصرة الدين حتى يتحرك هو، ولا أن يطلب منه أحد أن يقدم لأمته ودعوته؛ بل هو مُبادر يَعُد نفسه هو المؤتمن على دين الله والمسؤول عن إصلاح المجتمع ورد الناس إلى ما كانوا عليه من الهدى ودين الحق.
وقال "غزاوي": مما يفهمه أكثر الناس عند سماع أحاديث الغربة وأحاديث الفتن وتغير الأحوال كحديث (ما من عام إلا والذي بعده شر منه)، وحديث: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) يفهمون من ذلك أن هذا مسوغ لاستمرار الأمة في ضعفها وذلتها وهوانها وبقاء أهلها على الخنوع والانهزامية والانكسار والإحباط، وغاب عنهم أو نسوا أن هناك أحاديث أخرى تدل على عزة الأمة ودورها الرائد ومستقبلها الباهر، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (مَثَل أمتي مثل المطر لا يُدرى أوله خير أم آخره).
وأضاف: ما يصيب الأمة من أزمات وضعف ونكبات، وما يمر بها من مِحَن وهزائم وابتلاءات؛ ما هو إلا تذكير وتنبيه لها لتُفيق من رقدتها وتستيقظ النفوس من سباتها وغفلتها؛ لأن هذه الأمة المباركة قد تمرض وقد تضعف وتتردى أوضاعها وتعصف بها الفتن وتشتد أزمتها، كما هو الحال في الأزمنة المتأخرة؛ لكنها برغم ذلك كله لا تموت ولا تبيد؛ بل تظل كما وصفها الله {خيرأمة أخرجت للناس}؛ فهي الأنفع والأصلح لأمم الأرض لأنها تحمل رسالة عالمية، تفيد كل الناس، مهما كانوا، وأينما كانوا، ومقدار أفضليتها مرتبط بمقدار نفعها لغيرها. ولقد أحاط أعداء هذه الأمة برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين في المدينة، إحاطة السوار بالمعصم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه يحفر الخندق، ويَعِدهم بكنوز فارس والروم؛ فتشربت النفوس المؤمنة هذه البشائر، وتفاءلت برغم تفاقم الأزمة، ومع تلك الشدة والضيق فقد تَحقق وعد الله {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال}.
وأردف: استمرت هذه الأمة المرحومة في مسيرتها تتجاوز العقبات، وتَحققت لها بفضل الله تلك الأمجاد والفتوحات في عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من خلفاء بني أمية وبني العباس؛ حتى جاءت الكارثة المغولية، وما حدث من رزية في بغداد كانت من أعظم ما حل بالمسلمين من المذابح والنكبات في تأريخهم؛ حتى جرت أزقة بغداد بأنهار الدم، وحتى اختلف العلماء في عدد القتلى حيث أوصله بعضهم إلى ثمانمائة ألف؛ فأصاب الناس الإحباط، ورأوا أن راية التوحيد قد نُكست وشوكة الإسلام قد انكسرت، وحتى قيل إن العالم الإسلامي لن تقوم له قائمة بعد ذلك.
وتابع: لكنها سنوات يسيرة جداً وينبض قلب الأمة الحي، وتتحرك روحها الدافقة، وتنهض عزيمتها الصادقة؛ فيتحول الضعف إلى قوة، والذلة إلى عزة، لتكسر شوكة التتار الوثنيين ويبطل الاعتقاد الذي كان سائداً بأن جيش التتار لا يُهزم، وينحصر المد التتري، ويُقضى على أكابر مجرميه، ويدخل أهل بلاد التتار في دين الله أفواجاً.
وقال "غزاوي": بعدها بسنوات عادت الحملات الصليبية، واحتلت بيت المقدس، ودمرت وقتلت في بلاد الشام خلقاً لا يحصيهم إلا الله تبارك وتعالى؛ ولكن بعد سنوات أيضاً هيّأ الله بفضله القائد صلاح الدين الأيوبي؛ فعادت الأمور إلى نصابها وحفظت مقدسات المسلمين، واندحر العدو الأثيم، ومما يثبته التاريخ أنه جاءت فترات ركود وجمود في العالم أعقبتها أزمنة حركة وتجديد وازدهار بظهور الأئمة المجددين والعلماء المصلحين.
وأضاف: من المتقرر عند أهل الإسلام أن الله قد تَكَفّل بحفظ دينه وظهوره حتى تبقى حجته قائمة على العباد، قال الله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}، وقال سبحانه: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليُظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً}، وهذا الظهور ليس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فحسب بل في كل الأزمان.
وأردف: هذا كله دليل واضح على أن الدين محفوظ مهما اندرست معالم الحق وانمحت رسوم السنة، وأن الغربة قد تقع ثم تزول ويعود الدين إلى قوة ونشاط وانتشار، ووظيفة هذه النصوص وأمثالها إشاعة الأمل في النفوس وزرع بذور التفاؤل في الأرواح التي آلمها ما حل بالمسلمين من المصائب وخيّم عليها اليأس والقنوط، وهي بشائر أيضاً تثبت اليقين في القلوب، وتستحثّ الهمم من أجل مزيد من العمل للدين.
وتابع: ما شهده التاريخ منذ بزوغ فجر هذا الدين العظيم من مؤامرات للقضاء عليه؛ أمر لم يتعرض له أي دين آخر وأي ملة أخرى من محاولات الاجتثاث والإقصاء والتشويه، ومع ذلك نرى هذا الدين لا يزداد إلا انتشاراً وقبولاً؛ لأنه دين الفطرة الذي ارتضاه الله للناس، وأنه مهما سعى أعداء الإسلام جاهدين في محاربته، وطمس معالمه، والصد عن سبيله وأذية أهله؛ فلن يقف دوره، وسوف يظهر نوره، ويمتد أثره، ويبقى ما بقي الليل والنهار، وهذا ما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم بقوله: {ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيتاً مدراً ولا وبراً إلا أدخله الله هذا الدين بعزّ عزيز أو ذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر).
وأوصى إمام وخطيب المسجد الحرام، دعاةَ الحق ببذل المزيد من الجهود في سبيل إصلاح مجتمعاتهم، والدعوة إلى الحق وتبصير الناس بدينهم بالحكمة والموعظة الحسنة، كما أوصى المصلحين والمربين بالحرص على النشء وتعليمهم عقائد التوحيد الصحيحة، ومنهجه السليم، وتحذيرهم من الاعتقادات الباطلة والتصورات المنحرفة والمناهج الزائغة والأفكار الضالة، والدعوة إلى فضائل الإسلام، والتحذير من الرذائل والآثام.