كان يوما لا ينسى، ذلك اليوم الذي خرجنا فيه جميعا نحن الشباب إلى الحديقة العامّة لتمضية النهار في الهواء الطلق، فالشمس قلّما تسطع، فتحيل الطقس إلى دافئ منعش جميل، قضينا قبل الظهر في اللعب بالكرة والتسابق والضحك والمرح، وجاء وقت الغداء، فانقسمنا مجموعات، مجموعة ترصّ أسياخ اللحم، ومجموعة تشوي وأخرى تقطّع الخضار وتجهّز الصحون، كان أطيب طعام غداء ذقته في حياتي، طعام تخلّله الضحك والنكات والمرح.
وما إن انهينا الغداء حتى تناهى إلى مسامعنا صوت شجيّ يؤذّن للصلاة، إنّه صوت صديقي الداعية، وبدقائق كنّا في صفوف متراصّة وأقام فينا الصلاة دون الاهتمام إلى تجمّع المتنزهين واستغرابهم، فنحن في بلد لم يعتد على مثل هكذا أمور، ورغم ذلك لم نهتم، وأكملنا الصلاة بخشوع يزيده صوت صديقي الخاشع وهو يتلو ما تيسّر من القرآن والدعاء خشوعا، كم تمنيت لو أن الصلاة تطول، ولا يتوقّف عن تلاوته، فصوته يدفع دفعا للخشوع، لكننا أنهيناها، وجلسنا متحلّقين حوله نسبّح وندعو، بانتظار القصّة التي كان قد وعدنا فيها قبل الغداء.
ران الصمت على صديقي، ورأيته وقد غاب في أفكاره وذكرياته، وإذ بسحابة حزن غطت ملامحه، طردها بهزّة من رأسه وبدأ قصته قائلا:" كان ذلك منذ عشر سنوات، بعيد قدومي إلى هذا البلد، وبينما كنت أهمّ بالخروج من المسجد بعد صلاة العصر، إذا بي أسمع صوتا رقيقا يناديني، رفعت نظري ووجدت نفسي أقف قبالة شابة جميلة، ملامحها تشي بأنّها غير أسترالية، لكنّ لكنتها تنفي ذلك.
بادرتني بالتحية، فاستغربت ايقافها لي، لكن هذا الاستغراب لم يدم طويلا، فقد قالت لي بنبرة غلب عليها الحزن:" هل أنت مسلم؟"
أجبتها بسرعة:" نعم، والحمد لله، هل من خدمة أؤديها لك؟"
هزّت رأسها وقالت:" لي والد توفي اليوم، وقد أوصى أن يدفن كما يدفن المسلمون، فهل يمكنك مساعدتي؟"
كلامها جعلني أدرك أنها مسلمة، وشجّعني هذا لسؤالها عن أصلها، فأجابت أنها أسترالية لكنّ والدها كان من أصل تركيّ.
جمعت الشباب وانطلقنا معها إلى المستشفى، حيث كان بقيّة أفراد العائلة هناك، أخذنا الجثّة إلى المسجد، ورافقتنا عائلته المكوّنة من رجلين هما ولداه ، وثلاث نساء هنّ بناته،
قمنا بالواجب، فغسّلنا الجثّة وكفّنّاها، ثم صلينا عليها، والعائلة تنظر إلينا والدهشة تغلّف الوجوه، بعد ذلك نقلنا الجثّة إلى مقبرة المسلمين، وأنزلناها القبر وهم ينظرون من بعيد، تطلّ من أعينهم الدهشة والاستغراب، هذه الدهشة التي غلبت على الحزن فنسوه وهم يراقبوننا ماذا نفعل ، وما الذي نقوم به.
وبعد أن أغلقنا القبر، اقتربنا من ولديّ الميّت نقدّم لهما التعازي، فزاد استغرابهم من طريقة الأخوة معي، ومن عبارة عظّم الله أجركم.
انتهت مراسم الدفن، وانصرف الأخوة الذين أقبلوا مرحّبين للصلاة على أخ مسلم ، والمساعدة في دفنه، انصرفوا ولم يبق معي إلا أخ من فيجي، اقتربت مني بقية العائلة تحاول شكري على ما قمنا به، فاغتنمت الفرصة وشرحت لهم أنّ عليهم قراءة القرآن للوالد، فقال الجميع أنهم لا يعرفون عمّ أتكلم عنه، وطلبوا مني الحضور في اليوم الثالي لتناول الغداء معهم ولأخبرهم عن الذي قمت به مع الشباب، وافقت وأنا أراها فرصة لهدايتهم وإعادتهم إلى جادة الإسلام.
وصلت أنا وصديقي الفيجيّ قبل موعد الغداء بساعة، أوقفنا سائق الأجرة أمام قصر اندهشنا من شدّة فخامته وجماله، كانت مسكة الباب من ذهب، أما داخل القصر فحدّث ولا عجب، ثراء فاحش وقصر كأنه من قصور ألف ليلة وليلة، أخذنا بجمال القصر وروعته، ولفت نظري صليب كبير من ذهب مرصّع، علّق في زاوية الغرفة، يا إلهي...ما هذا؟؟؟ أهم مسلمون أم ماذا؟؟؟ لم أوصى والدهم بأن يدفن كما المسلمين؟؟ وكيف هم هكذا؟؟أيعقل أن يكون مسلما حديثا؟؟لا..لا يمكن...فقد قالت لي ابنته أنه تركيّ..لا بدّ أن وراء هذا الرجل حكاية...وعليّ أن أعرفها..
نظرت إلى صديقي، فقرأت في نظراته سؤالي نفسه...
وإذا بصوت مرحّب يقطع علينا تأملاتنا وتساؤلاتنا...إنه صوت الشابة نفسها التي قدمت إليّ المسجد، كبرى بناته ، مديرة المدرسة ...
رحّبت بنا كبرى بناته ترحيبا حارا، واصطحبتنا إلى غرفة داخلية، وإذ بالعائلة كلّها بانتظارنا، زوج الشابة وولداها، أخوها الطيار وزوجته وابنته، أخوها الطبيب وزوجته وابنهما، وأخيرا أختها المحامية وزوجها. ترحيبهم بنا أزال عنا التوتر، فجلسنا نتجاذب الحديث بانتظار الطعام الذي اشترطت عليهم ألا يدخله أي محرّم.
ولم يطل بنا الانتظار، جهز الطعام فانتقلنا إلى غرفته ونحن نشعر بالجوع بعد القيادة مسافة طويلة والتعب، كان الطعام لذيذا، وكان الجميع منهمكا به، ورغم ذلك، إلا أني لم أنجو وصديقي من نظرات الفضول التي كانت تصلني منهم وهم يأكلون، وكأننا من عالم آخر. انتهى الطعام فعدنا أدراجنا إلى الغرفة التي كنا فيها، وجلسنا نرتشف القهوة الفرنسية، ران الصمت المكان، صمت شعرت بثقله علي، أدرت عيني في الوجوه الكثيرة، وجوه غاب عنها نور الإيمان وسماحة الإسلام.
قطعت الصمت ابنته الكبرى وراحت تسألني عم فعلناه وقت الدفن.
فانتهزت الفرصة ورحت أخبرهم عن مراسم الدفن عند الإسلام، وكان الكل يسمع مشدوها وكأنهم يتعرفون على هذه المراسم لأول مرة، لا بل كانت فعلا هذه المرة الأولى التي يتعرفون بها عليها.
انهيت كلامي بسؤال كان يتردّد في بالي منذ الدفن: هل أسلم أبوكم حديثا؟
ردّت مديرة المدرسة بسرعة قائلة: لا بل والدي كان مسلما منذ البداية، والدي لم يكن رجلا عاديا.
أسكتتني المفاجأة، كيف كان مسلما، وكيف هم على ما هم عليه؟ وماذا عن الصليب؟ ماذا عن أزواجهم النصارى، وماذا عن لبسهم، عن زجاجات الخمر المرصوصة في المكان؟ أيعقل أن يكون مسلما وهم على ما هم عليه؟ ليتها قالت غير هذا. تساؤلات كثيرة داهمتني، فترجمها صديقي الفيجي سؤالا طرحه عليهم بعفوية واستغراب:"مسلم منذ الولادة، أكان مسلما منذ الولادة؟؟؟ هذا يعني أنكم مسلمون أيضا".
ما كاد صديقي ينتهي من كلامه حتى بادره الطبيب رادا بقسوة ما كنا نتوقعها:" لا، بل هو وحده كان مسلما، أما نحن فلا، ولا علاقة لنا بكم أبدا"
رده صعقني، فنظرت إلى العائلة لأقرأ على وجوه أفرادها موافقتهم على رده.
وساد الصمت من جديد، صمت كان مشحونا بالتوتر وعدم الارتياح، ورحت أسأل نفسي:لم نحن هنا؟ ولم لا نخرج؟ قمنا بواجبنا ودفنا الرجل، ماذا بعد؟ علينا أن نخرج من هذا القصر الموبوء، صليب على الحائط، كفر وغطرسة، ورفض واضح للإسلام، عليناالاستئذان والخروج.
هذا ما كنت أفكر به وأشعر أن علي فعله، إلا أن شيئا في داخلي أوقفني، طوال عمري لم أعرف الاستسلام والتراجع، وقد أتيت لأعرف حقيقة الرجل ولأهدي عائلته، ولن أخرج قبل أن أحقق ما أتيت لأجله، نعم لن أخرج قبل أن أعرف من هو الرجل الميت، وعلي أن أسألهم وأعرف منهم كل شيء.
نظرت إلى مديرة الثانوية التي كانت أشدهم لطفا وترحيبا، نظرت إليها قائلا:" هل لك أن تخبريني شيئا عن والدك وكيف كان مسلما؟ من هو؟ ولم أنتم غير مسلمين؟"
قالت:" لن تصدق ما سأقوله لك، تعالا معي لأريكما شيئا سيدهشكما"
قمنا معها ونحن نشعر باستغراب من تصرفها. أدخلتنا غرفة نوم كغرف الملوك،أثاث فخم مرتب ونظيف، لمن هذه الغرفة؟ ولم أدخلتنا إليها؟ رفعت نظري إلى الشابة مستغربا، فأسرعت وقالت: " إنها غرفة والدي"
تلفت في الغرفة علني أستشف شيئا من شخصيته المبهمة، لا يوجد فيها أي شيء يدل على دينه، غرفة خلت من الصور تماما.إذن، لن يمكنني اكتشاف سر هذا الرجل إلا من ابنته التي فتحت باب خزانة ضخمة، وأخرجت منها كتابا شديد القدم، قربته مني فحملته وأنا أنظر إلى صفحاته الصفراء التي أكل الدهر عليها وشرب، وما كنت لأصدق ما في داخله، لقد كان مصحفا قديما مكتوبا بخط اليد، يا إلهي ما هذا؟
إنه القرآن، انطلقت الكلمات من فمي بسرعة وعفوية شديدة، نظرت إلي المرأة وهي لا تفهم ماذا أقول، فشرحت لها أن هذا الكتاب هو كتابنا المقدس، كلام الله تعالى.وسألتها ان كان والدها يقرأ منه، فأجابتني أنها كثيرا ما كانت في الفترة الأخيرة تراه يقرأ منه وهو جالس على الأرض على سجادة صغيرة، وأحيانا كان يقبل الأرض ويبكي.
لقد كان يصلي، قلت لها شارحا، فهزّت رأسها دون مبالاة وأكملت:
قد يكون كذلك.
ثم أخرجت من الخزانة سجادة الصلاة التي كان والدها يصلي عليها والتي كانت لا تقل قدما عن المصحف، كما أخرجت صندوق خشب قديم.حملت السجادة ورحت أتأملها، صنعها متقن وجميل رغم الدهر الذي فعل فيها الأفاعيل.
مصحف وسجادة صلاة، ورجل يصلي ويقرأ القرآن ويبكي ، وأولاده بعيدون كل البعد عن الإسلام، كيف يكون هذا؟ وما هذا التناقض الغريب، لا بد ان وراء هذه الأسرة سر دفين، وما أظن إلا أن هذه المرأة ستخبرنا به الآن.
وهكذا كان، فما لبثت ابنته حتى فتحت الصندوق وأخرجت منه أوراقا كتبت بلغة غريبة، أخبرتني أنها اللغة التركية ، وأوراق ظهرت عليها أختام السلطان عبد الحميد...لم أستطع كتم دهشتي، فصرخت ما هذا؟ قولي لي من كان والدك؟ وكيف وصلت إليكم هذه الأوراق؟ إنها أوراق رسمية، ولا بد أنها الآن غالية ونادرة.
هزت رأسها وقالت:لن تصدق ما سأقوله لك، والدي كان آخر وال عثماني على دمشق، في الحرب العالمية الأولى هرب من دمشق بعد أن أخذ ما في الخزينة من مال ووثائق وسافر إلى شنغهاي حيث بقي هناك ما يقارب ثلاث سنوات، بعد ذلك تركها وجاء إلى هنا ليستقر وليتزوج من والدتي التي كانت من أصل تركي. تربينا وكبرنا ونحن لا نعرف شيئا عن هذه الأمور، فوالدي كان شديد الحرص على ألا يعرف أحد مكانه، لذلك عشنا واندمجنا بالمجتمع الغربي وصرنا جزءا منه، فنحن لا نعرف لنا مجتمعا آخر غيره"
سكتت، فرحت في أفكاري أسأل نفسي عن سبب تركه دمشق ولم شنغهاي بالذات حيث كان الحكم وقتها للبريطانيين، ثم أستراليا والتي كانت أيضا تحت الحكم البريطاني، أيعقل أنه كان خائنا عميلا؟ ولم لا، فما أكثرهم وقتها.
طلبت منها الاحتفاظ بالوثائق فرفضت بشدة، وأعطتني المصحف والسجادة.
حملتهما وفي قلبي ألم وحسرة، هذا الرجل ما أظنه إلا قد تاب قبيل موته، ولكنه اقترف جرما لا أعرف ان كان سيسامح عليه ام لا، فهو السبب في كفرهم جميعا، جميعهم لا ينتمون للإسلام، لا بل يعترفون أنهم نصارى. يا الله كم الإنسان ظالم لنفسه، لأجل المال والسلطة يضيع آخرته وآخرة أحب من عنده.
وهؤلاء ما ذنبهم؟ عائلة كبيرة راحت للكفر من جراء أفعاله، ماذا سيكون مصيرهم؟
نظرت إلى المرأة وشعرت أن من واجبي هدايتها وعائلتها، وكل من في الداخل، هم من أصل مسلم، وعليهم أن يتعرفوا على الإسلام الحق وأن يعتنقوه، ولكن الأمر ليس بالسهل، فهناك حواجز كثيرة، أقواها رفضهم الظاهر للإسلام، لكن علي ألا أستسلم، وليعينني الله تعالى على ما أنا مقبل عليه.
خرجنا من غرفة الوالد وعندي تصميم على محاولة هداية هذه العائلة، كنت أعرف أن الأمر صعب، لكن ليس بالصورة التي كانت في الحقيقة، كان عندهم ما يشبه الرفض التام لمعرفة الإسلام، ولمحاولة التقرب منه.
دخلت إليهم من باب التعرف فقط على دين الوالد، الجميع رفض ماعدا مديرة المدرسة، وافقت وأبدت تجاوبا.
حددت موعدا لزيارتها وعائلتها في بيتها،و قبيل الموعد صليت ودعوت الله تعالى أن ييسر مهمتي.
كان بيتها متواضعا بالمقارنة مع قصر الوالد، أدخلتني إلى غرفة الاستقبال حيث كان زوجها الذي استقبلني استقبالا فيه من البرودة الشيء الكثير.
لم أهتم لبروده،فقد اعتدت مثل هذه الاستقبالات.
جلسنا ورحنا نتكلم عن الطقس والحياة في البلد، ثم نظرت إلى المرأة وسألتها:" ألم تحاولي مرة التعرف على الإسلام؟
منقول"