رحمة الله بالمؤمنين في البلايا والمصائب ...
ففي وسط أجواء من الفتن والمحن والمصائب المتتابعة التي تصيب شعبنا، نحتاج إلى وقفة نتدبر فيها آثار رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده المؤمنين في هذه المحن والمصائب، رحمة الله بعبده المؤمن أوسع مما يظن، وبره به أرحم مما يشعر، ولطفه به في السراء والضراء أعظم مما يحس به، فهو يجعل في المكروه خيرًا كثيرًا، {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: من الآية 19]، ويجعل من فترة البلاء وإن شعر الإنسان بطولها -وليست كذلك- سببًا للرفعة والعطاء والعافية.
فهذا زكريا عليه السلام في صدره الحاجة إلى الولد منذ قديم، وتزيد أكثر لما رأى صلاح مريم عليها السلام وكرامتها على ربها، وتضاعفت مع ضعفه وشيخوخته واستشعاره الخوف على أمته من أقاربه الذين لا يقومون بالدين كما ينبغي، فعند ذلك {نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: من الآية 3]، مستحضرًا أنه لا يشقى العبد مع الدعاء {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: من الآية 4]، فيسأل الله ذرية طيبة، الذي يقوم بأمر آل يعقوب فهو يحمل هم أمة ويريد وراثة النبوة فيها، فيهبه الله في حال صلاته في المحراب ما أراد.
وبالصلاة تتغير موازين العالم وتُعطى العطايا، وتهزم الجيوش وتتداول الأيام وتزول الدول، ويؤخذ بنواصي الخلق إلى ما يريد الرب الجليل الجميل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، فلنفزع إلى الصلاة عند المصائب والمحن، فهي قرة العين الحقيقية في هذه الدنيا، ووعاء العطايا والهبات الإلهية على القلب بأنواع النعيم الذي لا نظير له في أي لذة أخرى.
وهب الله لزكريا يحيى عليهما السلام، ويحيى عليه السلام ليس له في بني إسرائيل منذ موسى عليه السلام نظير، كما قال الله تعالى: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم: من الآية 7]، فكم كانت سعادته عند ذلك؟! وهل كانت ستكون بهذا القدر المدهش الذي سأل معه آية وعلامة على وجود الولد رغم عقم الزوجة وكبر السن؟ وهل ستكون بهذا القدر لو أعطي الولد كما يعطاه غالب الناس في سن الشباب؟!
لا شك أن النعمة هنا أتم وأكمل كما قال إبراهيم عليه السلام: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39].
وإذا أضفنا إلى ذلك تأمل الصفات التي أعطيت للموهوب "يحيى عليه السلام"، يزداد الأمر وضوحًا في كمال النعمة بعد المحنة، فهو يأخذ الكتاب بقوة علمية مبصرة، وقوة عملية إرادية محركة، قال الله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: من الآية 12]، أي الفهم في الدين والعمل به.
وكذلك آتاه الله حنانًا من عنده، الرحمة والشفقة على خلق الله إذا جعلها الله في قلب عبد فذلك من علامات إرادة الرحمة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» [رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني].
وكذلك من صفات يحيى عليه السلام أن الله آتاه زكاة نفسه وطهارتها، عندما تنمو النفس الإنسانية وتزكو بالإيمان والتوحيد تتخلص من رجس الشهوات المحرمة.
وكذلك كان يحيى عليه السلام سيدًا وحصورًا، أي: يمنع نفسه الشهوة المحرمة، فهذه هي السيادة الحقيقية: أن يتحكم الإنسان في نفسه لا أن تركبه شهوته، وتحركه نفسه الأمارة بالسوء، سواء كانت شهوة المال أو الجنس أو الجاه أو الرياسة، نسأل الله العافية.
وكان تقيًّا وبارًا بوالديه، ومن وفقه الله لبر والديه فقد وفقه لصفة من صفات أنبياء الله، فالله يريد به خيرًا فليتق الله فيما بقي من أوامر الله، والعاق جبار شقي عصي لله ولم يكن يحيى عليه السلام كذلك، وسلَّم الله عليه وسلمت عليه الملائكة يوم ولد ويوم مات، ويسلم عليه يوم يبعث حيًّا.
كل من يقرأ القرآن لابد أن يحب الأنبياء ويرجو صحبتهم ورفقتهم، لأنهم خلاصة العالم وصفوة الله من خلقه، نسأل الله أن يجمعنا بهم في الفردوس الأعلى، هم الذين علمونا كيف نرفق بالناس ونرحمهم، ونحس بآلامهم ونسعى إلى إزالتها، وليس كهؤلاء القساة الذين لا يعبئون بآلام البشر مرة بعد أخرى ولا يسعون إلى إزالتها، وعندهم الاستعداد لخراب البلاد والعباد من أجل شهواتهم الإبليسية في السلطة والجاه!
والله سبحانه وتعالى يتم نعمته على عباده بعد أن تمر فترة من البلاء، فتأتي النعمة بعدها على حالة الفاقة وإدراك قيمتها، فيكون ذلك أدعى للشكر، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123]، وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26]، فاللهم اجعلنا من الشاكرين.
ومن رحمته عز وجل أن فترة البلاء لا يخليها عز وجل من عاقبة وفضل، وربما لا يجده الإنسان في غيره، ولربما يغسل عنه هذا الفضل الألم بالكلية، فيصل إلى مرتبة الرضا بعد مرتبة الصبر فيجد رائحة مثل نعيم أهل الجنة وهو في الأرض {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: من الآية 119]، فنسألك اللهم رضوانك الذي لا سخط بعده.
وفي بلاء أيوب عليه السلام من هذا المعنى القدر العظيم، فطول بلائه مع رضا نفسه كان من أعظم أسباب كمال النعمة عليه من ربه عز وجل، فكما رأينا في قصة يوسف ويعقوب عليهما السلام كيف يأتي الفرج والنعم دفعة واحدة! كان كذلك في قصة أيوب عليه السلام فشفاه الله بركضة ووهب الله له أهله ومثلهم معهم رحمة منه وذكرى للعابدين، فاللهم اجعلنا من العابدين.
نسأل الله عز وجل أن يتقبل من قُتل واستشهد في هذه المصائب المتتابعة خلال الأيام الماضية، نسأل الله أن يرحمهم وأن يصبِّر أهلهم.
وتعازينا لجميع من أصيب في شيء من نفسه وأهله وماله في هذه المصائب.
حفظ الله بلادنا من البلايا والمحن.