تركة جدي (1)
جعفر عباس
كان أبي رحمه الله يتقبل مداعبات ومناكفات عياله بروح طيبة، ولكنه مثل ابناء جيله كان صارما في الأشياء المتعلقة بالسلوك والآداب العامة.. لم يضربني سوى مرة واحدة وكانت ضربة واحدة.. لم يكن بحاجة الى استخدام يده لتأديبنا لأن صرخة واحدة منه كانت كفيلة بإصابتنا بهلاويس لأسبوع كامل.. كنت أقوم بانسحاب تكتيكي من أمامه إذا رأيت شاربه يهتز،
فقد كان اهتزازه دليل انفجار بركاني غير محمود العواقب.. وفي الوقت نفسه لم يكن يسمح لنوبات غضبه ان تمتد لأكثر من دقائق معدودة.. ذات مرة استجمعت شجاعتي وسألته لماذا لم يعمل بالزراعة مثل بقية اهل بلدتنا في شمال السودان، ولماذا هاجر مع اخوته (اعمامي) الى مدن السودان الكبرى للعمل؟ وأدرك والدي ان سؤالي «خبيث« فأجاب: مش شغلك.. هذا أمر لا يخصك.. فطرحت السؤال بصيغة أخرى: لماذا لم يترك لنا أبوك سوى قطعة أرض غير صالحة للزراعة في جزيرة نيلية كل سنتيمتر فيها يتمتع بالخصوبة (ما عدا أرض جدي).. ضحك وسألني: طالما انك تعرف ان والدي الذي هو جدك لم يترك أرضا صالحة للزراعة فكيف تتوقع مني وإخوتي ان نعمل بالزراعة؟ هنا سألته: طيب ما الذي جعل جدي يشتري أرضا بائسة مشبعة بالأملاح ولا تصلح حتى مقبرة للنفايات النووية! ابتسم والدي ابتسامة عريضة وقال: جدك هذا كان ارستقراطي المزاج ويحب اقتناء الأشياء الجميلة وكانت لديه أراض شاسعة المساحة وعالية الخصوبة ولكنه باع او بالأحرى قايض معظمها بحمير! صحت: بلاش هزار.. ولكنه لم يكن يهزر (يهذر) بل واصل الحديث: كان أبي مغرما بالحمير وكلما رأى حمارا عالي اللياقة البدنية ورشيقا سعى لامتلاكه، ولعدم توافر سيولة نقدية في ذلك الزمان كان يعطي أصحاب الحمير التي يشتريها مساحات متفق عليها من الأراضي، فلم تبق من أراضيه سوى القطعة التي لا تصلح للزارعة ولم يكن الناس أغبياء حتى يعطوه حميرهم مقابل قطعة أرض جرداء تعاني الجرب والجدب المزمن. وبمرور الزمن عرفت أشياء كثيرة عن جدي، وصرت فخورا بكونه كان يملك اسطولا من الحمير ذات الدفع الرباعي، وبكونه توفي تاركا لورثته 12 حمارا من الجنسين.. ففي بلدتنا الزراعية كان امتلاك حمار يعادل امتلاك جرار في هذا الزمان، وكانت هناك حمير في منتهى القيافة والأناقة لا تستخدم إلا كأدوات مواصلات من قبل الشبعانين أي الأغنياء.. وكان جدي يتولى بنفسه قص شعر كل حمار بطريقة هندسية فيكون الشعر كثيفا في موقع السرج ومتدرجا في منطقة الذيل، وبين بين في أجزاء أخرى من البطن والظهر.. ولم يحافظ أبي وأعمامي على الثروة الحميرية التي تركها جدي بل باعوا الحمير واستخدموا عائد البيع للسفر جنوبا الى الخرطوم ووسط السودان او شمالا الى مصر.. لم يكن جدي «استعراضيا« ولا غبيا ولكنه كان من جيل لا يشيل هم الغد لأن الأمور كانت مستقرة: لم يكن هناك من يموت جوعا او بالتخمة.. مستويات المعيشة متقاربة وليس ثمة هلع وجزع عن «تدني الرصيد المصرفي وهبوط الاسهم«.. عاش جيله راحة البال التي لم نعد نحن نعرف لها طعما.